اخر الاخبار

تحرير العقل العربي من آفة التطييف


فتحي أبو النصر





بمضامينه الديمقراطية والمدنية، شكل ما يسمى بالربيع العربي، تهديداً وجودياً للمشاريع الأصولية الإيرانية والسعودية معاً "تلك هي الحقيقة" وأما بسبب العقلية المتحجرة للأصولية السعودية تحديداً، فقد استفادت إيران من الربيع العربي، لتحوله إلى ربيع إيراني. 

وهكذا رأينا الأصولية الإيرانية التوسعية، وهي تتماهى مع الأصولية السعودية في حرف المطالب الديمقراطية المدنية للربيع العربي. 

كما رأينا صدام الأصوليتين التطييفيتين على الأرض العربية، واللتان تمثلان اليمين واليمين المضاد، خصوصاً مع انحسار الدور المصري اللاطائفي القيادي في المنطقة، وتراجع دور اليسار وقوى الليبرالية والتحديث والتنوير، التي وجدت نفسها حائرة وسلبية جراء تسلح الثورات السلمية، وطغيان القيم الطائفية، أو تائهة ومشتتة في تحالفها مع إحدى الأصوليتين ضد الأخرى حالياً، وبالطبع: مع هامش بسيط لحركة تيار وسطي بينهما، لكن بدون تأثير مسلح. 

والحال أن إيران لا تخسر كثيراً، لأن الخطر لا يلفح حدودها، على عكس السعودية المطوقة بالمخاطر، وهي التي فرطت بالعراق، وتعثرت في سوريا، وتعاني في لبنان والبحرين واليمن... إلخ. 

وبالرغم من كل مسارات الصراع المسلح المحتدم في المنطقة، إلا أن الأصولية الإيرانية والأصولية السعودية لا يمكنهما وضع البديل الذي بشر به الربيع العربي أبداً. 

لكن لأسباب عروبية بحتة، يتوجب على السعودية تجديد خطابها وأدواتها، ليتجاوب معها أكبر قدر من الجمهور العربي التائق للتطور وللتقدم، فيما قصور الوعي السعودي في هذا الاتجاه، سيصب في صالح الوعي الإيراني فقط، كما سيفرز نتائج معاكسة، ليست في مصلحة مستقبل العرب، وخصوصاً مستقبل قيم الربيع العربي النهضوية. 

فالثابت أن الاصطفافات على أسس مذهبية خطيرة، له انعاكاساته الارتكاسية في المجتمعات العربية التي أرادت التخلص من مساعي الاستغلال السياسي للدين. 
ولقد تفوقت مطالب الربيع العربي بكونها معاصرة، وغير طائفية، ولم تنطلق من محددات مذهبية بائدة، كالخلافة أو كالولاية. 

بل إن شباب الربيع العربي كانوا وما زالوا مع تحقق الدولة المدنية الحديثة، وليسوا مع دولة شيعية أو دولة سنية، بقدر ما هم مع دولة مدنية، تحمي التعدد المذهبي بالممارسة السياسية، وبالمواطنة المتساوية أمام القانون، وليسوا مع تمزيق الدول والمجتمعات كما يجري حالياً.

السعودية لا تملك سوى الطائفية لمواجهة طائفية إيران، لذلك فإنه من المفترض أن كل ما حدث في لبنان والعراق وسوريا والبحرين واليمن... إلخ، يجعل العقل السعودي يتجدد ويتغير، فلا يكرر الأخطاء التاريخية التطييفية، التي جعلت العقل الإيراني يستغلها ويتمدد لإسقاط كيانية تلك الدول، فضلاً عن تهديده لتجانس هويات وتطلعات أبرز المجتمعات العربية منذ فترة، وكذا إقلاقه للأمنين الإقليمي والدولي معاً. 

والشاهد أن دعم السعودية الحثيث للمشاريع المذهبية اللاديمقراطية واللامدنية واللاسياسية المضادة لمشاريع إيران- والقائمة على نفس قيمها التطييفية كما هو واضح- هو ما تريده إيران دائماً. 

إيران التي تدرك جيداً بأن طبيعة السعودية التكوينية ستجعلها تخشى- وبشكل وجودي متخلف- كل نداءات المواطنة والتنوير والتحديث التي تنادي بها شعوب المنطقة، بحيث أن السعودية- وفق عقليتها المتحجرة والمأزومة تلك- وجدت نفسها في نفس الموقف مع إيران، وذلك باعتبارهما معاً ضد إجراء الإصلاحات الفقهية والفكرية والسياسية الضرورية في المنطقة، ما يعني بالمحصلة عدم مغادرة العرب لأسباب الإرهاب والاستلاب والإستبداد والإستغلال السياسي للدين، وبالتالي إعاقة قيام أنظمة التطور والتقدم والتداول السلمي للسلطة- أنظمة الحقوق والحريات والواجبات المتساوية- الأمر الذي يصب في صالح إيران أكثر من السعودية للأسف. 

السعودية التي لن تسلم من رياح التغيير الناشبة في المنطقة، مهما اعتقدت ذلك أو غالطت أو هربت!، بمعنى آخر ينبغي على السعودية وهي تتزعم مجابهة إيران -كما تزعم- الاتكاء على مشروع إجماعي عربي واضح، ينحاز للمستقبل وليس للماضي، كما يجد التفافاً وتفاعلاً من كافة القوى العربية، مهما كانت تبايناتها. 

وبالتأكيد ينبغي لذلك المشروع -في إطار اللعبة الجيوسياسية المحتدمة بين السعودية وإيران- استنهاض عوامل وفواعل التكامل العربي العربي، والانطلاق من خلال المشتركات العربية العليا.

فلا يمكن الإنتصار على المشاريع الطائفية الإيرانية في المنطقة، إلا بتحرير العقل العربي من آفة التطييف، وتحديداً عبر المشاريع التنويرية والتقدمية الحثيثة ضد الكماشة الطائفية، وليس بتكريس النمطية السعودية المتحجرة التي ما زالت تعتمد -بالرغم من فشلها الذريع في المجابهة- على دعم المشاريع الطائفية المضادة في وجه مشاريع إيران الكارثية. 

لقد ولى الزمن الذي يمكن للسعودية فيه أن تشكل "طالبان" جهادية في كل دولة عربية، للوقوف في وجه إيران وميليشياتها الجهادية، وتستريح! فمثلما كان اندلاع ثورات الربيع العربي علامة فارقة في تحول السياسة الإقليمية لإيران، كذلك وجدت السعودية نفسها في وجه الارتباك الكبير. 

غير أن السعودية لا تملك سوى الطائفية لمواجهة طائفية إيران، ولذلك ستفشل، بمعنى أنه صار لزاماً على السعودية تغيير قيمها النمطية المكشوفة، التي تضعها في مآزق دولية وإقليمية متفاقمة جراء التطييف.

وأما بسبب كتب التراث الفقهي العنيف للسنة وللشيعة، كما بسبب الفتاوى التي يرعى قداستها الجهادية، ويؤجج توحشها الدموي صناع الترهيب والتكفير سعودياً وإيرانياً: سيظل القتلة والقتلى يتكاثرون باسم الإسلام فقط، كما ستظل أمريكا حفارة للقبور الجماعية لدول وشعوب المنطقة. 
واستطرادا يمكن القول إن العرب السنة يعملون ضد أنفسهم بإصرار عجيب، تارة بعدم تحديدهم موقفاً رفضياً واضحاً ضد الإرهاب، الذي يحسب عليهم بإرادة عالمية خصوصاً جراء عدم بدئهم في تصحيحات وإصلاحات فقهية شجاعة، وثانياً بعدم تفعيلهم لهويتهم العربية بدلاً عن الهوية الطائفية التي يتم استثمارها ضدهم، وثالثاً بعدم امتلاكهم لمشاريع سياسية ومدنية ديمقراطية معاصرة ضد الإستبداد.

ومع إيماني العميق طبعاً بضرورة ولاء المواطن العربي للمواطنة ولدولة المواطنة، لا للطائفة ولدولة الطائفة، يبدو واضحاً أن صراعات التغيير في المنطقة ليست طائفية، وإنما هندسوها لتكون كذلك، وهي في حقيقتها بين مشاريع الدمقرطة والحقوق والواجبات المتساوية، وبين مشاريع الاحتكارات والطغيانات، بين البرامج المدنية والسياسية الجامعة لدولة الشعب، وبين دولة الجماعة ذات المشاريع المذهبية التفكيكية للمجتمعات وللدول. 

لذلك كله يتشظى السنة ويتكتل الشيعة كعادتهم التاريخية، وفيما يتميز الشيعة بتعصبهم لأقليتهم، متفقين على قواعد أساسية ذات أولويات جامعة وتوجهات فارسية، فإن الأكثرية السنية تختلف في توجهاتها، بل وتنقسم على نفسها بضراوة وحماقة غالباً. وهكذا.. ما بين ذهنية التجسيد شيعياً، وذهنية التجريد سنياً، ووعي المعصوم شيعياً، ووعي اللامعصوم سنياً، تذهب أحلام التطور والتمدن العربية أدراج الرياح، كما يتأجج الإرهاب الكامن والموجه الذي ينشط ويزدهر في حالة الفوضى واللادولة والحروب الأهلية، وهي الحالة التي تتم فيها رسم الخرائط التجريفية الجديدة لمجتمعات ودول المنطقة. 

لكن إذا كانت نقطة قوة الشيعة تكمن في تكتلهم، فإنها يمكن أن تكون نقطة ضعفهم مستقبلاً، وتحديداً بمجرد تغيير السنة لنمطهم الفكري والسياسي. 

وإذا كانت نقطة ضعف السنة تكمن في تشتتهم، فإنها يمكن أن تكون نقطة قوتهم مستقبلاً بالمقابل، ولذات السبب طبعاً. 

بل ويؤكد التاريخ أن السنة في مسألة القابلية للتحول الديمقراطي هم المشكلة والحل، أما الشيعة فهم المشكلة والمشكلة المضاعفة. 

وإذا كنا نرفض التخلف السني بشدة، خصوصاً وعي الخلافة المشوه والبائد، فإنه يجب أن نرفض التخلف الشيعي أيضاً، وبالذات وعي الإمامة المأزوم والقائم على العنصرية السلالية الممجدة لنظرية الحق الإلهي التي لا تتسق مع العصر والمنطق والضمير. 

كذلك لا يمكن إلغاء التطرف الشيعي بتطرف سني، ولا يمكن إلغاء التطرف السني بتطرف شيعي. وحده الخطاب الوطني فقط ما يستطيع مكافحتهما معاً. 

وبالتأكيد فإن للفاشيات الدينية شعاراتها اللاوطنية، التي تعمل بكل طاقتها على فرضها. 

ولعل أكثر ما تحتاجه المنطقة ثقافياً وتربوياً وسياسياً وأمنياً، ثورة وعي ضد الوهابية من ناحية، وثورة وعي ضد ولاية الفقيه من ناحية ثانية.

ثم من السخف تطبيع الإرهاب وعدم مجابهة مسبباته الفكرية بشجاعة، فضلاً عن ترويج نظرية الولاية في دول ذات تعدد مذهبي أو ديني، كصيغة حاكمية، بينما وحدها الديمقراطية -لاغيرها- ما يمكنها أن تكرس حقوق المواطنة وتعزيز السلام.

لكن على ما يبدو فإن غالبية الأسر الفارسية التي تجنست في دول الخليج هي التي ستسقطه في حال لم يجدد الخليج خطابه وأدواته، وذلك لأن ولاءها فارسي محض، ولا عزاء للشيعة العرب طبعاً كقفازات لفارس، كما لا عزاء للسنة في الخليج الذين لم يتطوروا سياسياً ويتهربون من تكريس قيم المواطنة والتمدن، فيما يمنحون مبررات لتلك الأسر المسيطرة التي لا تطيق العروبة.

وباختصار شديد: ليس أمام العرب سوى أن يتجاوزوا الإنتماء المذهبي، من خلال العودة لانتماءاتهم السياسية، بدلاً من الإستمرار الغبي كجماعات طائفية ماقبل وطنية. 

فالطائفية لا ترسخ العيش المشترك.. وليكن الولاء للمواطنة وليس للطائفة، لأن استمرار الولاء للطائفة معناه تكريس الولاء لقيم ما قبل الدولة فقط. 

وأما المواطنة فهي فوق الطائفة، بينما لا دولة حقيقية بلا مواطنة متساوية، ووحدها مساعي الديمقراطية والمدنية التي تمثل بوتقة العدالة المشتركة، والحس التعايشي المشترك، هي التي ستظل توحد المجتمع ولا تفرقه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

وكالة أرصفة للأنباءجميع الحقوق محفوظة 2016