اخر الاخبار

نجيب الورافي... أكاديمي تحت خط الحرب



عصام واصل
_______

يعاني الدكتور نجيب الورافي، أستاذ الأدب الحديث في جامعة ذمار، منذ عامين، صراعاً وجودياً عنيفاً، فهو أب لم يعد يشعر أنه كذلك بعد أن قُطِعَ راتبه، وهو أكاديمي لم يعد يشعر أن لأكاديميته معنى في زمن الحرب والرصاص، وهو إنسان، تناهب المتصارعون حقوقه بين قذائفهم وأزيز رصاصهم.

بعد نقل البنك المركزي وتقاسم إدارته بين أطراف الصراع، صحا الورافي وأكاديميو المحافظات الشمالية عموماً، على خبر انقطاع الراتب، لتبدأ مرحلة المعانة والصراع مع الحاجة والفاقة وتراكم الديون ومتطلبات الأسرة واحتياجات الأبناء لاسيما الطلبة منهم.


تعب وجودي... يسكن الورافي في منزل بالإيجار، ولم يعد قادراً على دفع ما ينبغي عليه للمؤجر، وهو ما جعله يشعر بحرج كبير، فإلى أين سيذهب إن أصرّ صاحب المنزل على دفع الديون المتراكمة منذ عامين تقريبا؟ ولأن مالك المنزل لديه من الإنسانية ما لا يملكه أمراء الحرب، فقد منحه مهلة مفتوحة حتى يعود الراتب، ومع ذلك، لم يقوَ الورافي على تحمل هذه المكرمة الكبيرة، وما يزال يشعر بحرج منه، لكنه مجبر على قبولها، وهو يدرك جيداً أن صاحب المنزل يمر هو أيضاً بظروف صعبة جداً للأسباب ذاتها، لكنها الحاجة... الأمر ذاته، مع بقال الحارة أيضاً (الريمي)، فقد تعرف على الورافي وأدرك أنه في مأزق، فقرر أن يبيعه بالآجل حتى يعود الراتب، مع تشديده كل يوم على الورافي بأن لا يشعر بأي حرج مطلقاً حتى لو أُفْرِغَت البقالة من محتوياتها كلها. يقول له دوما: «سأمنحك ديناً حتى ينتهي كل ما في الرفوف»، لكن المفاجأة أن الرفوف أفرغت فعلاً بسبب البيع بالآجل لعموم الموظفين على أمل أن يعود الراتب، وقد اضطر الريمي لملء الرفوف إلى بيع ذهب زوجته ومقتنياته، حتى لا يشعر المحتاجون باليُتم إن أغلق بقالته.

«لم أعد أباً»
كتب الدكتور نجيب الورافي على صفحته في «فيسبوك»، بمناسبة حفل تخرج ابنته، الذي لم يتمكن من حضوره، نظراً إلى عدم وجود أجرة «الباص»: «ابنتي أمة السلام تحصل على بكالوريوس في الأدب الإنجليزي، جلست تمكني الله كم هحضنك بحفل التخرج يا باه.. قلت لها أنا ما عاد أصلحش أب من يوم قطعوا راتبي، ولما جاء حفل التخرج ثبت لها... كنت الأب الغائب»، يؤكد الورافي أن الأبوة تنقطع حينما يعجز الأب عن تلبية احتياجات ومتطلبات أبنائه، ويدرك أن ذلك لم يكن يخطر بباله في يوم ما، لكن الحرب جعلته ماثلاً أمامه بعد قطعه الراتب وتشتت آمال انتظاره بين حكومتين في صنعاء وعدن، وقوات «التحالف» التي أحالت البلد إلى زنزانة.

مضاعفة المأزق
منذ العام 2011، يعيش الورافي ككل أبناء اليمن في المحافظات الشمالية من دون كهرباء ولا ماء، لكنهم يبتكرون أدوات الإنارة وطرائق إيصال المياه إلى منازلهم، وأخيراً حدثت أزمة الغاز فصار الورافي مع زملائه يقف في طوابير طويلة، بحثاً عن الغاز أيضاً، ويؤكد أن دائرة المأساة بالنسبة إليه تزداد ضيقاً عند نفاذ الماء من الخزانات وكذا الغاز، أو حينما يمرض أحد أفراد الأسرة، إذ لا يستطيع توفير قنينة دواء أو اصطحاب المريض إلى الطبيب. كل شيء صار حلماً. وذلك كله يؤدي إلى تعب وجودي لا يتوقف. ألمٌ ينسيه الأبوة والشهادات التي يحملها وقيمته كإنسان بعد أن أهدر المتصارعون إنسانيته. إنه الشعور بالعجز، لا سيما أن الأكاديمي لا يستطيع أن يزاول مهناً متعددة كغيره، ولا يستطيع أن يفرط في أسرته، ولا يستطيع أن يتجاوز حاجز الحاجة. ومع ذلك، لم ينس الدكتور الورافي اليوم، الذي رسم على شفتيه ابتسامة مفارقة نتيجة لسرقة بطارية ومرآة سيارته التي لم يعد قادراً على استخدامها بعد أن تركها للإهمال، فأكلها الصدأ لعجزه عن شراء البنزين الذي صار حلماً، بعد أن تضاعف سعره واختفى من السوق. يقول الورافي «لست حزيناً أو غاضباً بسبب ذلك، فقد يكون اللص أكثر حاجة مني».

تعب يومي
في لحظة ضغط الحاجة، حاول الورافي بمعية الزملاء في الجامعات اليمنية الواقعة تحت خط الحرب، أن يعلنوا الإضراب الكلي عن التدريس وأداء المهام الأكاديمية حتى يتم صرف الراتب، لكنه عاد بعد حين واستشعر المسؤولية الأخلاقية والأكاديمية الملقاة على عاتقه، فكسر حاجز الإضراب وقرر أن يدرِّس طلبته في مرحلة الماجستير وطلبة سنة رابعة. لقد تحركت لديه مشاعر الأب واستشعر أنه إن لم يفعل فسيضيع مستقبل الطلبة. 
وما يزال يناضل كل يوم للحضور وأداء المهام الأكاديمية الملاقاة على عاتقه، من دون مقابل، بعد أن أيقن أن الحرب لا دين لها، وأن لا أخلاق لدى المتصارعين وأن لا إنسانية للبندقية، قرر أن يعوض غياب القيم لدى أولئك بزرعها لدى طلبته، وتعليمهم حب الحياة ومعنى الإنسانية بدلاً عن حب الحرب والصراع.

هي الحرب التي ارتكبت جرائم كثيرة تفوق المجازر بكثير، وخلقت إشكاليات كثيرة بعد أن طال أمدها وصار الناس يترقبون أي انفراجة مهما تكن، الحرب التي جعلت الورافي بعد ثلاث سنوات على انطلاقها، يحلم بدفع ما عليه من ديون متراكمة منذ عامين، بلغت أكثر من ستة مليون ريال. قيمة قذيفة صاروخية واحدة تلقيها مقاتلات «التحالف» على منزل ما من منازل المدنيين الآمنين. إنها الحرب، وتلك قصة واحدة من أقل قصص الأكاديميين واليمنيين إيلاماً.

#موقع_العربي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

وكالة أرصفة للأنباءجميع الحقوق محفوظة 2016