اخر الاخبار

هذيان نصف قرن "1_12"




قصة_ عبد الوهاب ناجي ناجي
_________________________

صعد إلى الغرف في الطابق الثالث، أقفل خالد باب الغرفة بدموع منهملة كأمطار الصيف، جلس يرقب الطريق خلف نافذة الغرفة التي بحجم الوجه، في ذلك المساء قبل إنسدال الظلام، ستمر معشوقته مزفوفة إلى بيت زوجها سعيد الحظ، سمع أصوات (الطماش) المختلطة بأصوات الرصاص الحي من بعيد، ركز نظره على ذلك الجزء الظاهر من الطريق الذي ستمر منه، ظهر حملة الطبول التي لم يسمع قرعها لبعد المسافة، لكنه كان يستشعرها بقوة، كادت أن تصم أذنيه، وأحس بارتجاج الحيطان، وظهر بعد ذلك المشيعون، وظهرت  نسوة، لا شك إنها في وسطهن وحولها ضاربات الدفوف، وبسرعة اختفى الموكب خلف الآجام، بعدها أجهش بالبكاء ونحب ودق على صدره.

ستظل هذه الصورة معلقة في ذاكرته كصورته المعلقة على جدار الغرفة، يخفت بريقها حينا، ويبرز تلألأها حيناً أخراً، فبعد عشر سنوات، في ليلة عرسه، أقبلت عروسه، برزت معها صورة معشوقته وهي تختفي خلف الآجام، وحين جلس بجوارها، ورءاها لأول مرة، تذكر معشوقته، تتشابه خدود النساء، لكن خدود معشوقته ليس لها مثيل، كان اسمها زهرة وكانت تكبره بحوالي خمس سنوات، قبل ذلك، طرق بيوت المشعوذين  وضاربات الودع، لا ليرى مستقبله مع زهرة، لكنه يطلب منهم أن تكون زهرة زوجته الأبدية ، كان يواجه بإبتسامة، فسرها حينها أنها التأكيد على طلبه، ثم أكتشف بعد رحيلها إنها كانت للسخرية منه، وبقى سره في نفسه لم يصرح به لأحد سوى المشعوذين وضاربات الودع، حينها كان عمره حوالي الخامسة عشرة، وبعد خمسة عشر  سنة، في أحد شوارع المدينة، إلتقى بحاتم، تبادلا السلام وكان خلفه تقف امرأة مشرشفة، فاجئه حاتم بقوله:  هذه زهرة بنت ربيع، إلتفت إليها وسلم عليها بهزة من راسه، حاتم هو والد زوج زهرة، إفترق عنهما، وعشرات من الصور المعلقة في الذاكرة تلمع كالذهب، صورة زهرة صافية كالسماء، شهية كالعسل، ذكريات تبرز فلا تصحب معها حسرة ولا ندم، بل تعطية شحنة جمالية وعاطفية نقية، ومع ذلك لاسمها رنة مختلفة عمن تسمت باسم زهرة من الفتيات.

من خلف الآجام كانت السماء تلمع بالرصاص الصاعد، تمزق أحشاءه، وهي بلا شك تختلف عن الرصاص التى كان يسمعها بعد ذلك بعدة سنوات وهو في أحد مواقع الجمهورية وتحت علمها، كان رصاص قاتل.. لكنه ضاحك، زمجرت السماء فلم تسكت البنادق، وتحت جنح المطر هبط من الموقع، إلتوى خلف الصخور، فاجأ الموقع الملكي، استسلم الملكي، وتم تسليمة للقيادات العليا، كان اسمه صاحب.. نعم.. اسمه علي الصاحب.. على ما يذكر.

وبعد غربته، خرج إلى السوق ليتبادل السلام مع من تبقى من السكان، مر مدير الناحية علي الصاحب، لم يتفاجأ إن أصبح علي الصاحب الملكي مدير ناحية الجمهورية، لكنه راح يستعد لجولة أخرى من الحب.
تدفقت رياح السقيع، كوم مخدة من القش وسد بها النافذة..

***
تلعلعت أصوات البنادق ليس في السماء كما تلعلعت في عرس زهرة، ولا كما ستلعلع  في عرس خالد غيلان الورداني بعد أربع سنوات، لا.. هذه المرة صوبت فوهاتها على البشر، بَقَرَتْ البطون ومزقت الأحشاء وفجرت الجماجم، مثلها مثل حرب الخمس سنوات الأولى من الجمهورية، ومثل الحرب الثالثة التي ستأتي في 94.

هي الحرب الثانية.. حرب الجبهة التي استمرت أكثر من خمسة عشر عاما، ألهبت مناطق العدين و شرعب، والحُشَى، ووادي بنا. 

في الأولى كان الناس يهتفون: (تسقط الملكية)، في الثانية، تغير الهتاف، فصاروا يهتفون: (تسقط الرجعية)، واستمر نفس الهتاف في الحرب  الثالثة (94 )..     

   

***
مع شروق شمس  يناير 73 - خرج  غيلان الورداني، يلتمس دفئ الشمس عوضاً عن دفئ الطعام الشحيح، كان العام الماضى عام  مقشعر، لم تعطي الأرض خيراتها، وكأن الحرب حين تهبط لا تهبط منفردة، بل تجر معها ويلات أخرى، فانقطع المطر وتشققت الأرض عطشا، وتيبست الأشجار وأستحال الزرع إلى حطام تذروه الرياح
..     

   ***
وجبة واحدة في اليوم لاتسد الرمق، بدا غيلان الورداني الذي تجاوز الخامسة والأربعين من عمره، بوجه رسمت عليه الأخاديد، قامة طويلة وبشرة بيضاء، بعد هنيهة خرجت زوجته لول تجر خلفها بقرتها، بدت بعمر أقل من الأربعين، ببشرة فاتحة وسواعد ضامرة معرقة، وجه دائري فاتح بعيون لوزية صافية، قصيرة القامة، مهدمة، ارتسم في وجهها الأخاديد وبقت إشراقة إبتسامتها  التي لاتفارقها...

⬆يتبع ..2➡⬅⬇
نوفمبر 2017

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

وكالة أرصفة للأنباءجميع الحقوق محفوظة 2016