منيف
الهلالي*
======
خديجة
بن قنة تعلن عن مجزرة ارتُكبت بحق الشباب المرابطين بساحة التغيير بصنعاء بُعيد صلاة
الجمعة، صور القتلى تدل على دموية مفرطة اتسم بها المشهد، والدتي مصلوبة أمام التلفاز
والدمع ينهمر من عينيها بحسرة موجعة..
تركت
الطعام وبقيت أرقبهما من زاوية مطلة على الألم.
الصور
مخيفة، أعداد القتلى في تزايد، كاميرا الجزيرة تقترب من الضحايا فتظهر وحشية النظام
وسلوكه الإجرامي..
أعناق
تسيل دماً، رؤوس تطايرت أشلاؤها، صدور عارية عبث بها الرصاص، قلوب كانت مملوءة بالأمل
فجرها بارود الحقد المتمترس خلف المبررات الواهية، دماء ودماء، جثث وأشلاء، صراخ وأنين،
غازات وقناصة، شهداء وجرحى، موت ودمار، كرسي أهلك شعباً بأكمله أو يكاد..!!
حاولت
أن أصرف والدتي عن مشاهدة تلك الصور المفجعة بإحضار الطعام بين يديها، غير أنها أصرت
على البقاء ضمن دائرة الواقع المهول، وظل بصرها ملتصقاً بتلك الوحشية المضرجة بالإجرام.
حاولت
أن أغلق التلفاز، علّي أتمكن من إقناعها بضرورة تناول الطعام؛ إذ أن الامتناع عنه سيتسبب
في مضاعفات خطرة، خصوصاً وأنها تعاني من داء السكر، إلاّ أنها صرخت في وجهي بشدة معلنةً
عزوفها عن الأكل حتى تنتهي من مشاهدة تلك المجازر التي لم تعهدها من قبل، وإن كان ذلك
سيؤدي إلى هلاكها.
ذهبتُ
بالطعام إلى المطبخ، ثم عدت أشاهد معها:
برك
الدم، صور الموت، حركة المسعفين، مفردات التحدي، عبارات الوعيد، ثمن الرحيل، فاتورة
الخلاص.
ما زلت
بإحدى عيني أرقبها وبالأخرى أصارع الرهبة في حضرة البارود والدم، وبدا لي كأنها ستسقط
مغشياً عليها نتيجة تلك الصور المرعبة التي تظهر على شاشة الجزيرة؛ لذلك، كنت أخفي
عنها مشاعر الخوف التي باتت تحتويني، حتى لا أشارك سلباً في انهيارٍ وشيك لها.
كانت
الساعة تمضي ببطء، بينما الأحداث تزداد وحشية كما يريد المهووسون بالكرسي، لم يتبادر
إلى ذهني -وأنا أتقطع خوفاً على والدتي التي جعلها داء السكر لا تقوى على مثل هذه المشاهد
ــ أن القدر يحتفظ بفاجعتي لدقائق معدودة، وإن كان ما أعانيه ينبئ عن قادم مفجع، فثمة
كآبة تضع أقدامها على صدري وتكاد تقتلني، حركة أنفاسي تتآكل، الأكسجين يتلاشى شيئاً
فشيئاً، ما دفعني لفتح نوافذ الصالة علّي أستعيد كمية الهواء، الذي استنزفه الغاز الذي
يُقذف به المعتصمون رغم بعد المسافة التي تفصلني عنهم.
ما زالت
الوحشية تعاود حضورها، فها هو طفل عبث الرصاص بمؤخرة رأسه بعد أن أخذ عينه اليسرى،
وذاك آخر تعامل معه على عكس قرينه، أما أنا فما زلت ألهث خلف حبيبات الهواء القادمة
من النافذة علّي أتمالك كياني الذي بدأ بالخروج عن نطاق السيطرة.
والدتي
استشعرت ما أنا عليه فطلبت مني إغلاق جهاز التلفزيون.
ما إن
وطأ مسامعي طلبها حتى هرولت إليه، غير أني قبل أن أمد يدي إليه، كانت يد القدر قد أطلقت
العنان لفاجعتي.. لذهولي.. لصمتي..
توقفت
عن لمس مفتاح التلفزيون فتوقف كياني عن الحركة، حاولت أن أتراجع قليلاً علّي أتمكن
من رؤية الشاب الملقى على السجاد الأحمر، فعاودت كاميرا الجزيرة تصوير ربطة عنقه الوردية
المخضبة بالدم الثائر..
ولكن..
نظراً لتدافع المسعفين وازدحام الجثث لم يتمكن المصور من عرض وجه الشـاب، فأرسلت كفي
إلى عينيَّ أفركهما، علّي أتمكن من رؤية شيء في ثيابه يدلني على ألاّ حبيب لي هناك..
لقد كان كل ما يقع عليه بصري يشير إليه سوى وجهه، الذي ما زالت جثة زميله تحجبه عني،
أضواء التلفاز شاحبة، الصورة تقترب مني برعب هستيري محموم، دوي صوت طلقات الرصاص يخترق
الشاشة ليستقر في صدري.
شبَّت
بباطني حرائق الخوف، واعتراني الفزع الأكبر وأنا أرقب الكاميرا تنتقل من شهيد إلى آخر
ومن جريح إلى صرخة.
ما زلت
أستجدي الصمود من كياني المترنح، علني أجد ما ينفي خوفي أو يؤكده، أود التعرف على الشاب
الملقى على ظهره، كاميرا الجزيرة لم تدعني ألتقط أنفاسي، بل عادت لتمر على جثث الشهداء
من زاوية معاكسة لتلك التي كانت تبث منها، فأمسكت فمي بإحدى يدي وبالأخرى قلبي، وأنا
أنتقل معها من شاب إلى آخر، ومن شيخ إلى طفل، حتى توقفت أمام وجهه الهامد الباسم.
شعرت
حينها بشيءٍ ما يستل بقايا أنفاسي ويجبر دورتي الدموية على التوقف.
سارت
بي الأرض دون خُطاي فصرخت في وجه الجزيرة:
لاااااااااااااااااااا...
ثم سقطت مغشياً علي.
الكاتب-
جزء من قصة لي بعنوان: " ارتكب البطولات واختفى".


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق