عبد الباري طاهر
____________&
بمقدار ما كانت ثورة الربيع العربي ذات بعد قومي، انطلقت شعلتها من تونس لتغمر المنطقة العربية من الماء إلى الماء، بمقدار أيضاً ما شهدت ثورة مضادة من المنامة إلى تطوان.
وبمقدار ما كانت الثورة سلمية، عفوية، وتلقائية، بمقدار ما كانت الثورة المضادة مخططة، مدججة بالسلاح، مهجوسة بالحرب والعنف. في المنبع (تونس)، فشل خيار جر الجيش إلى قمع الإحتجاجات، فهرب ابن علي.
لجأت الثورة المضادة إلى الإحتواء السياسي والاغتيالات، ولكن قوة مؤسسات المجتمع المدني، وحياد الجيش، وقوة الحياة السياسية والنقابية (الاتحاد العام التونسي للشغل)، ووعي ومدنية تيار قوي في النهضة بزعامة عبدالفتاح مورو وراشد الغنوشي حال دون نجاح الثورة المضادة.
ومع ذلك، فلا تزال التحديات والعوائق قائمة حتى اليوم، بعضها في الداخل التونسي، وبعضها آتٍ من دول الجوار، وبالأخص الجزائر وليبيا.
وما ساعد الإنتصار السريع لثورة ربيع تونس قربها من أوروبا، والدور الرائع للحبيب أبو رقيبة في عملية التحديث، وعلمنة الحياة التعليمية والثقافية والسياسية إلى حد ما، وربما أيضا بعدها - وهذا مهم - عن مركز دعم الثورات المضادة في شبه الجزيرة العربية.
فتونس الحضن الدافئ لثورة الربيع العربي ما تزال شعلتها متقدة.
فتونس الحضن الدافئ لثورة الربيع العربي ما تزال شعلتها متقدة.
كانت مصر مركز الإنطلاقة الثاني والأهم في الثورة. تحول ميدان التحرير إلى مركز لثورة الربيع العربي للأمة العربية كلها. تُولد الثورة والثورة المضادة في آن كطبيعة الأحداث التاريخية الكبرى، وطبيعة الثورات الوطنية وحركات التحرر الوطني الآتية من منابت اجتماعية مختلفة.
ثورة مصر امتد أثرها وتأثيرها إلى المنطقة العربية كلها: سوريا، ليبيا، اليمن، البحرين، وامتدت بمستويات إلى المغرب والسودان وعمان.
الثورة الشعبية السلمية لم تأت من فراغ، فقد سبقتها ثورات شعبية سلمية في مصر منذ الربع الأول من القرن العشرين.
وشهد السودان انتفاضتين شعبيتين شهيرتين. فالحركات والكفاح السلمي في بعض البلدان العربية والعالم الثالث كانت هي الأساس منذ فجر القرن الماضي.
خرجت تونس من تحت الحماية الفرنسية عام 1955 بعد اندحار قوات المحور في الحرب العالمية الثانية. ومثّل «الإتحاد العام التونسي للشغل»، والذي يضم النقابات والهيئات الشعبية، أداة فاعلة في النضال السلمي، وكان هذا الإتحاد قطب الرحى في النضال الوطني منذ الإستقلال وحتى اليوم.
وفي مصر، وقف الجيش على الحياد؛ لأن جنوح حسني للتوريث كان محل رفض مختلف الفئات والشرائح والاتجاهات الفكرية والسياسية في مصر. وفي مصر، يُعتبر الجيش العمود الفقري للدولة العميقة. فمنذ ثورة 23 يوليو 1952 أصبح الجيش أساس الدولة العسكرية، ومذاك تغلغل العسكر في كل مفاصل الدولة، أو كما قال المفكر المصري أنور عبد الملك: «مصر مجتمع جديد يبنيه العسكريون».
أسهم العسكريون في البناء، ولكنهم استحوذوا على الحياة السياسية والاقتصادية، ثم أصبحوا في عهد مبارك العائق الحقيقي إزاء أي إصلاح أو تحديث.
وعندما انطلقت الثورة لزموا الحياد بسبب نهج التوريث لوارث مدني. تحالف العسكر أو بالأحرى قيادات الجيش مع «الإخوان المسلمين»، وهم جزء أساسي في الثورة الشعبية، وتواطأوا على الإنقلاب على ثورة 25 يناير بإجراء انتخابات قبل إقرار الدستور، وأقصوا قوى الثورة الشعبية السلمية: حركة «شباب 6 أبريل»، وحركة «كفاية»، والأحزاب السياسية المختلفة، ومؤسسات المجتمع المدني، ثم انقلب الجيش على «الإخوان المسلمين» مما فتح الباب أمام الصراع الدامي.
الانقلاب المصري يشبه إلى حد ما انقلاب الثورة المضادة في اليمن على الثورة السلمية. للثورة السلمية طابع عام ومشترك في ثورات الربيع العربي كلها: العفوية والتلقائية، وحضور الشباب: المرأة والرجل، واستخدام وسائل التواصل الإجتماعي، والاستقلالية في الغالب الأعم عن الأحزاب، وحداثة التجربة، والخلاص من حمولات التحزيب والأدلجة القاتلة والمقتولة في آن، وللأسف غياب القيادة الموحدة.
كما أن للثورة المضادة سماتها المشتركة والواحدية، وطابعها العام في المنطقة العربية كلها: المحافظة، والتقليدية، والتمسك بالسلطة والرهان عليها، إستخدام العنف، والجنوح للقوة وصولاً للحرب، والاغتيال. وتشترك في هذه المعاني الكريهة السلطة ومعارضتها المسلحة الآتية من الثورة المضادة والخارجة من رحم السلطة نفسها.
إن القتال في سوريا وليبيا واليمن قاتل ومدمر. ففي سوريا، بدأت الإحتجاجات السلمية في قلب دمشق رافعة شعار الثورة الرئيس: «الشعب يريد إسقاط النظام». ولمدة ستة أشهر، كان رد النظام مزلزلاً، فقد استخدم الجيش والأمن، واستعان بـ«الشبيحة» أو «البلطجية» كمسمى مصر أو «البلاطجة» في التوصيف اليمني. لم يكتف نظام الأسد بذلك، بل أطلق كل المساجين بما في ذلك المجرمين والإرهابيين والمحكومين بالإعدام، وهم مئات وآلاف، ودخلت السعودية ودول الخليج وتركيا داعمين لـ«النصرة» و«الدواعش» ومفرداتهما الكريهة الهادفة إلى تدمير الأمة العربية، ومدن الحضارة في العراق وسوريا بعد تدمير أفغانستان. وفي الطرف المقابل، إيران و«حزب الله» كحرب ضد الشعب السوري التواق للسلام والحرية والمواطنة.
ودخلت روسيا وأمريكا على الخط، لتتحول الحرب في سوريا إلى حرب كونية مصغرة.
الثورة المضادة في سوريا تضم الحكم والمعارضة، وتنخرط فيها القوى الإقليمية ذات البعد الطائفي المعادي للثورة السلمية والاحتجاج المدني. إيران و«حزب الله» والمليشيات الشيعية الآتية من بغداد وأفغانستان، وفي المقابل السعودية ودول الخليج وتركيا الداعمة لـ«الدواعش» و«النصرة»، ومن ورائهما روسيا وأمريكا، كلها ثورة مضادة ومساندة لها. والكارثة أن القوى الصانعة للإرهاب هي من يحارب الإرهاب، وسوريا، الحكم والمعارضة المسلحة (الإرهابية)، الأنموذج الأكثر بشاعة وإجراماً، ويبقى نظام الأسد رأس الإجرام، ويتحمل المسؤولية الأولى عن كل جرائم الحرب وفظائعها ضد الإنسانية.
أما ليبيا، فميدان قتال كل أطراف الثورة المضادة، ولعبت بعض دول الخليج ومصر وأمريكا دوراً مشجعاً للاقتتال والتفكك.
الثورة المضادة في اليمن أطراف عديدة، وكلها حاكمة، «فولة وانقسمت نصفين» كما يقول المثل المصري. الاحتجاجات السلمية المدنية (ثورة الربيع في اليمن) اتخذت صوراً عديدة وبدايات متفاوتة بدأت في حضرموت كرفض لقرار الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، تقسيم محافظة حضرموت إلى محافظتين. وشهدت حضرموت في العام 1997 عدة مظاهرات أدت إلى إسقاط قرار تقسيم المحافظة.
وفي عدن، بدأ حراك سلمي ذو مطالب حقوقية، وتطور إلى مطلب سياسي (فك الإرتباط). أما في تعز وصنعاء فقد بدأت الإحتجاجات كتضامن مع الثورتين التونسية والمصرية عام 2011، وتحديداً في 11 فبراير، ورفعت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام».
وردت السلطة بالقمع واستخدام البلاطجة. في جمعة الكرامة، 18 مارس 2011، قامت السلطة في صنعاء بقتل المصلين في شارع الدايري، وقتلت ما يزيد على خمسين معتصم ومحتج، وجرحت العشرات، وانشق قائد الفرقة (اليد اليمنى لصالح والقريب للتجمع اليمني للإصلاح)، وانقسمت السلطة على نفسها، كما انشق الجيش والأمن، وانضم «التجمع اليمني للإصلاح»، وهو جزء أساس من الثورة الشعبية، لمحسن، فبدأت مواجهات مسلحة داخل الساحات، وفي العديد من مناطق اليمن.
إنشقاق السلطة على نفسها بداية الانعطافة الحقيقية نحو الثورة المضادة. جرى تهريب المسؤولين المتهمين بقتل المحتجين السلميين في جمعة الكرامة. تقدمت دول مجلس التعاون الخليجي بمبادرة أطلق عليها مبادرة التعاون الخليجي، جرت فيها إعادة اقتسام الحكم في ضوء التوازن الجديد بين صالح ومحسن: «المؤتمر» و«الإصلاح».
أُعطيت الحصانة لكل المشتركين في كل جرائم حكم ثلاثة وثلاثين عاماً، والإعفاء عن المساءلة، والسماح بالاستمرارية كإعادة صياغة للسلطة، وقطع الطريق على الثورة الشعبية السلمية.
هُمّشت الثورة الشعبية السلمية. أُقصي المحتجون السلميون: المستقلون والشباب والشابات، وكان مؤتمر الحوار الوطني الشامل البديل الوحيد والممكن، ولكن الحوار الوطني حوصر باستمرار المواجهات المسلحة في غير مكان، وعجزت السلطة الانتقالية المكونة بالأساس من قطبي الحكم صالح ومحسن («المؤتمر» و«الإصلاح») عن أي انتقال حقيقي.
الثورة المضادة متجذرة في اليمن منذ عام 48 وحتى اليوم. فحكم ما بعد 48 يعتبر ثورة مضادة، و5 نوفمبر 67 ثورة مضادة، و13 يناير 86 في جنوب الوطن ثورة مضادة، وما بعد جمعة الكرامة ثورة مضادة ضداً على الثورة الشعبية السلمية، وانقلاب صالح و«أنصار الله» في 22 سبتمبر 2014 ثورة مضادة بامتياز، بل ثورة مضادة داخل الثورة المضادة، للإيغال أكثر فأكثر باتجاه تسييد الحرب، وتعميمها على اليمن كله، وإطلاق عفاريت الإرهاب والعنف والتجويع، حد الموت، بالحصارين الداخلي والخارجي، وقطع الراتب.
الثورة المضادة في المنطقة العربية كلها هدفها الرائس ضرب الثورة الشعبية السلمية في مناطق انتشارها، وتدمير مراكز الحضارة والتمدن الواعدة بها، خصوصاً تلكم التي شهدت ثورات وطنية في الماضي، ووقاية المناطق الأخرى من هبوب رياحها.
لا شك أن الحرب المسعرة في العراق وسوريا وليبيا واليمن في الجانب الأساس درء مخاطر الثورة الشعبية السلمية. وما يجري في تونس ومصر هي أيضاً محاولة جر البلدين إلى مستنقعات العنف وأتون الاحتراب.
الإتجاه الإسلامي في المنطقة كلها جزء من الداء والدواء. فالتيار الإسلامي بشقيه: السلفي السني والسلفي الشيعي، وجهان لعملة واحدة. كلاهما ضد ثورة الربيع العربي. فالآيات الإيرانية أعداء حقيقيون لثورة إيران السلمية التي كانوا جزءاً منها وفي قيادتها، وأصبحوا ضد ولاية الأمة التي دعا إليها الميرزا محمد حسين النائيني في منتصف القرن الماضي، وترجمتها ثورة محمد مصدق مطلع الخمسينات. وهي - أي الثورة الإيرانية - ضد ولاية الإمام أو الفقيه - حسب رسالة «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» للنائيني. كما أن ثورة الربيع العربي ضد الفساد والاستبداد، وضد حكم الغلبة والقوة، ومن باب أولى ضد مكتب الإرشاد العام، فمكتب الإرشاد كولاية الفقيه وجهان لعملة واحدة. والتياران المتقاتلان يجرفان الأمة العربية إلى صراعات طائفية، وحروب دينية تبدأ ولا تنتهي.
«الإخوان المسلمون» في البلاد العربية كانوا أيضاً جزءاً من الثورة العربية وفي قيادتها، وقد انقلبوا عليها وتواطؤوا مع الثورة المضادة في مصر وليبيا وسوريا واليمن والسودان. ويكون الاستثناء الوحيد تونس.
السعودية ودول الخليج أول الداعمين لهذه الثورات المضادة، وللمفردات الكريهة: الدواعش و«النصرة» و«القاعدة»؛ فهي سلاحهم الفعال في مواجهة مليشيات الشيعة، والأهم قطع الطريق على ثورة الربيع العربي. وحرب اليمن الداخلية والخارجية هدفها دفن ثورة الربيع العربي والعودة باليمن إلى ما قبل عصر الدولة.
موقع العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق