اخر الاخبار

حين يتجلى الوطنُ في "رمش أنثى"



منيف الهلالي‏

                

              


تشعر بالحزن أحياناً وأنت ترى كل ما حولك يشيرُ إليه، تقررُ أن تبتعدَ قليلاً لتخلو بنفسك لبعض الوقت، علّك تنسى الأحداث المخيفة التي تعصفُ ببلدك، تمتطي صهوة اللحظة وتيمم شطر النيل، تبحث عن شجرة بعيدة عن أعين المارة علّك تختفي خلفها؛ لتُحلق في عالمك الآخر وتستعيد شريط الذاكرة بعد أن أرهقتك تفاصيل الحياة البائسة وأضناك الحنين إلى وطنك المغتصب؛ غير أنك تمتلىء حزناً حين يقودك ناظرك دون إرادة منك لترصد حركة العشاق الدؤوب بجوارك، وتتصفح المشاعر التي تومض من كل الزوايا، والقبلات المسروقة التي تستفزُ زهدك، فتحاول كرهاً أن تفلت منها لتتحدث إلى النيل علّك تتجاوز الأحداث العاطفية التي تتحرش بك وهي تتمدد باتجاه المكان الذي اخترته لتخلو بنفسك؛ لكنك تزداد حزناً وانهزاماً حين يتبين لك أن النيل ذاته لا يصغي إليك، بل يشيحُ وجهه عنك ويفتح ذراعيه لأوراق الورد التي تتساقط عليه أثناء إلتحام أكف العشاق ببعضها، فتكتفي بائساً بالنظر إليها وهي تمارسُ الحبَ على سطحه بطريقتها..


تتلفت حولك باحثاً عن ممرٍ سريٍ يرتبُ لك مخرجاً آمناً، دون جدوى، فتضطر منكسراً إلى حمل أوراقك وأفكارك المبعثرة لتعود أدراجك معتقداً أن الإرتماء في حضن مخدعك قد يزيح عن كاهلك كل ما علق به..


وفي طريق العودة إلى شقتك تحدث نفسك عن بلدك الذي يئنُ تحت وطأة العصابات، وقطاع الطرق، ومآلات راهنٍ مخيفٍ يكشفُ حجم العبث والفوضى والخراب الذي مازال يترصده..


تسيرُ شارد الذهن في شوارع القاهرة مطأطئاً رأسك الذي أثقلته الهموم دون أن تدرك أين يأخذك الدرب، وحين تشعرُ بعدم قدرتك على مواصلة المسير نتيجة للآلام التي في قدميك ترفعُ رأسك كي تتعرف على المنطقة التي أخذتك أقدامُك إليها، وما إن ترفع رأسك حتى ترى صنعاء القديمة نصب عينيك بشوارعها وأزقتها وجمالها.. ترى دار الحجر، وقصر سيئون، وقلعة القاهرة، ومعبد الشمس، وجسر شهارة، وسد مأرب.. ترى مدرجات ريمة، وحصون إب.. وترى موجةً هادئةً تسير بدلالٍ وهي تلوِّحُ بيدها للشمس لحظة الغروب في ساحل الحديدة..


تفرك عينيك علّك تتيقن من المشهد السريالي الذي يفرضُ حضوره بقوة أمامك، فتكتشف بعد جهدٍ كبيرٍ أن اليمنَ تجلَّى في رمش أنثى أطلت برأسها من نافذة الشقة المجاورة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

وكالة أرصفة للأنباءجميع الحقوق محفوظة 2016