قصة_ ناجي ناجيِ
عاشت الجمهورية..
تسقط الجمهورية الملكية ..
تسقط الملكية
إن كانت(عاتكة) والدة عبدالكريم، قد صدته بقسوة، كان يعالجها بالتعويض عند فاتنة المدينة(خبازة)، وهو المسطلح الذي تعارف عليه الزبائن، أصحاب الصحبة والمتعة العابرة، ومع مرور الوقت خفتت في نفسه شمعة الرغبة، ثم عادت مرة اخرى حين طلبت منه الافراج عن زكريا وما أظهرته من ليونة، وفجأة، عاودت صدها، أما اليوم فإن شعلة أخرى قد أُظرِمتْ نارها في بيته، باعلان زوجته(رضية) نيتها تزويج إحدى بناتها على عبدالكريم، وأن هذه رغبتها ورغبة(عاتكة) والدة عبدالكريم، وما عليه هو سوى رفع درجة العلاقة إلى مستوى المصاهرة، كان له بنتان.. خديجة عمرها لايتجاوز الثامنة عشرة، ورثت عن أبيها وجهه الشاحب ونفسية أمها التي كانت من الجلافة تفوق جلافة والدها، وغاليه تصغرها بعامين، ورشة مرحة، وكانت عاتكة ورضبية قد تبادلتا الكلام بشأن المصاهرة، فقد أحست كل منهما برغبة المصاهرة، فسعدت رضية، وسعدت عاتكة التي كانت من القوة والصرامة وبهاء الطلعة ورقة اللسان مسيطرة على ما حولها، حتى على القبيلي الجلف(الرائد) والقبيلية(رضية)
التي كانت- كما كانت تردد أمام أبنائها:(تقوم مقام الثور والحمار في بتلة الجربة)، وأكبر دليل ما طلبته بشأن زكريا غالب، فمن جهته لبى الدعوة مرغما بهواه، لم يكن اشفاقا على زميل إبنها، وأعز أصدقائه، بل امتحان لنفوذها على القبيلي، وحين جاء، قابلته بالشكر، بلسان لم يتعودها من قبل.. هز رأسه وعلى شفتيه إبتسامة قائلا في نفسه:(طلب خدمة، وتلبية الخدمة، ثم مصاهرة)، كل ذلك أعاد إلى نفسه الذي كان، وسرعان ما اشتعلت وديان الرغبة المكبوتة التي لم يحسب وجودها من قبل بهذا الحجم، قد وجدها الأن في طيات نفسه، فصار بين نارين.
***
خرج الرائد من مبنى القيادة ومعه عبدالكريم لشراء القات وتناول الغداء، استعدادا للذهاب إلى صنعاء، وفي الطريق صادفتهم مظاهرة تايداً للسلال قادمة من مدرسة الثورة الثانوية، في طليعتها ابراهيم عبدالله، مر من جوارهما ناظراً إليهما بنظرة الانتصار، فقال قاصدا ابراهيم: - أخبل.. مش داري أن الجمعة الجمعة.. والخطبة الخطبة.
كانت الهتافات:(علم عربي واحد.. جيش عربي واحد..).
توقفت السياره في شارع جمال، أمام السوق المركزي، كان في بوفية الزاوية(تقاطع جمال والتحرير)، يجلس زكريا ومعه وزملائه، توجها إليه مستغربين من عدم مشاركته في المظاهرة، فقد ظن الرائد، أن الحبس قد أثمر فيه، لكنه سمع ما أغضبه، فتوجه إلى السوق بدون سلام.
***
كانت أصداء المظاهرة، لا تزال ترن في الآذان(علم عربي واحد، جيش عربي واحد)، فقال زكريا:
- علم عربي واحد.. شعار جميل وسليم.. الأمم المتحدة لديها علم عالمي، ومع ذلك لا يعني شيئ إلا للدول الخمس الدائمة العضوية.. أما جيش عربي واحد فشعار يصلح في أي مكان إلا في اليمن.. طيب.. لماذا لانخرج غدا بمظاهر نطالب بجيش يمني واحد.
- هذه نظرة سطحية للامور.
- صحيح أنا، ابن الرعوي الذي لم يتطور ليتحدث عن فيتنام، وعن فلسطين رغم عدالتهما، ولا يعرف شيئا عن حصار لينينجراد، هل تعلمون، اين كان حبسي!!، في حوش الدبابات، في الجحملية، الحوش الذي تمرد على الامام احمد، فخرج لينهب رعية الحوبان، كان فعلا شنيعا، فالجيش الذي اعده الامام لينهب الرعية لصالح الإمام، خرج متمرداً ويقوم بنهب الرعية لصالح الجيش.
أعاد زملائه السؤال، الذي كان مطروحا قبل أن يظهر الرائد، وشقيق ابراهيم عبدالله فقال:
- إذا نفذ السلال المطالب العشرة فسأكون معه، لكنني اشك في ذلك، فالسلال جزء من مهمة يقوم بها الجميع لبقاء السلطة في المركز
- فلماذا عاد!
- عاد ليحكم ضمن صراع طويل اسمه قانون الغلبة
***
ظل زكريا في البوفية، حتى انتهت المظاهرة، وعاد ابراهيم من مشاركته فيها، سارا الإثنان إلى سوق الشنيني، تناولا الغداء، مع الوالد غالب في المحل، أخذا منه القات وتوجها إلى بيت ابراهيم للمذاكرة.
***
في عتمة العشاء، سار زكريا في الطرق الملتوية الضيقة، إلى المنزل، كان منزل غالب حسن، منزل بمطرح واحد بغرفتين
مع المنافع، أهم ما فيه من متاع الآ نية النحاسية والعصا البارز في جدار الغرفة لزوم عمل حلاوة المقصقص.
بدأ غالب ربع القامة وجهه عريض ووجنتين مقورتين إلى الداخل، إذا ضحك ظهرت مواضع انيابه العليا فارغة وبشرة فاتحة ونفس مشرقة غير مكدورة، وجسم منهك غير شاكي، كان غالب في ما مضى قوي البنية، تضائلت مع الايام، ولم يعد قادرا على تحريك عجينة الحلاوة في الآنية النحاسية الكبيرة، فقام ببيعها وشراء آنية نحاسية صغيرة، تناسب حالته الراهنة، وبعد إستواء العجينة يتركها حتى تبرد، ثم يقوم بضرب العجينة على العصا المثبت في الجدار، بعدها ياخذها فوق سحارة يفركها بين يديه والسحارة حتى تصبح أعواد دقيقة، ثم يأتي بالمقص ويجعلها قطع صغيرة، عمل يومي دأب عليه من يوم قدم من قريته البعيدة المخفية خلف الجبال، تزوج(زكية)، وهي قصيرة نحيلة الجسم خفيفة الحركة بشوشة الوجه، بها مسحة جمال باقية مما أخذته الأيام، وهي من قريته التي لم يعد إليها أبدا، ومن زكية خلف منها ولدين وفتاة، أكبر خلفته سعيد ثم زكريا ثم فاطمة، درس سعيد حتى الإعدادية، والتحق بالجيش، أما زكريا، فهو في الثانوية العامة، وفاطمة في ثاني إعدادي، في السادسة عشرة من عمرها، إلتحقت بالمدرسة على كبر- مثل بنات جنسها- بالمدارس التى جائت بها الثورة المجيدة، بدأت قصيرة نحيلة الجسم مثل أمها، تلف راسها بمنديل(مَصَر)، يخفي تحته شعر مظفور بظفيرة واحدة، وعلى جبهتها خصلة شعر، ووجهها صغير ونحيل لكنه حاد الملامح، وبشرتها سمراء، جمعت بين قصر ونحولة وسمرة أمها وتبسط والدها، وعزيمة أخويها تحمل في راسها الصغير عقل متقد، بعد الثورة وبمعونة أخويها وبأذنيين شديدتي الإلتقاط والحافظية وعينين متلهفتين، إلتهمت مبادئ القراءة والكتابة بسرعة، وحين إلتحقت بالمدرسة قبلت في الصف الرابع الإبتدائي ، هي الان في المرحلة الإعدادية توسعت مطالعاتها بفظل مدرسات لهن ميول سياسية مختلفة أمددنها بكتب مبسطة عن القومية وحركة التحرر العالمية، واطلعت على منشورات التنظيمات السرية وشبه السرية، بالإضافة إلى المناقشات التى كانت تدور بينها وبين أخيها زكريا.... يتبع الحلقة الرابعة.
ناجي ناجي: نهاية نوفمبر 2015..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق