عبدالعزيز المجيدي
_______________
أكتب اليك كما لو كنت رحلت للتو، كما لو كانوا الآن يضعون
جسدك المسجى في القبر.. وأذرف روحي ..
قبلة أخيرة ودموع حارة على جبين بارد لم تكن كافية.
كنت أود لو أحتضن دفئك الأخير لو لثمت جبهتك المتعرقة كما
أفعل دوما لأحظى بقلبك.
لكنني خذلتك، بل خذلتني الحياة فاعتذرت عن مرافقتك إلى عدن
ويممت صوب صنعاء منشغلا بمتابعة عملي المتوهم!
لا أدري لماذا شغفت قلبك فكرة زيارة عدن في ذلك التوقيت بالذات،
وأنت الذي غادرتها للمرة الأخيرة قبل أكثر من أربعين عاما؟
لكأنه إحساسك الخاص بدنو اللحظة، فجرفتك أشواق مكبوتة لإلقاء
تلويحة الوداع الأخيرة، للمدينة التي احتضنت فتوة ريفي بسيط هرع الى البندر يبذل العرق
ويبعثه مراسيل الى قريته النائية هناك في أطراف تعز.
لعله الحنين الخلاب للذكريات والأماكن، والعرق المسكوب على
الدكة، وربما الحنين للفتى المكابر، العنيد الذي كنته أنت، وكان يمتطي في طوره الأخير،
كفارس عتيد، بسحنة كهل على مشارف السبعين، صهوة جواد، يرقب بأنفة وكبرياء أيامه الأخيرة
من الساحل الذهبي.
أتفحص الآن ملامح صورتك الأخيرة.
كانت الأخيرة بالفعل وكأنك تحاول إكمال الجزء الناقص منك،
صورة الفتى التي أصبحت عليها بعد آخر مرة غادرت فيها عدن قبل أكثر من اربعين عاما.
اعتقد انك وقتها كنت على يقين تام كأي رجل يعرف جيدا أطوار
الحياة أنك لم تعد أنت ..
ربما طويت شيخوختك في الصورة الأخيرة بجيبك وألقيت الوداع
بيقين على جزءك الفتي كما على الشوارع والأزقة التي قضى جزءا من سنواته فيها.
ترك الزمن آثار معركته على ملامحك وكان مرض السكر قد أخذ
منك الكثير، حتى ذلك الزند الذي لطالما امتلأ بحيوية شاب لا يتردد في استخدامه عندما
يقتضي الأمر، بات جلدا مجعدا، لكن كبرياءك لم يشخ ولم يتجعد، صمد حتى اللحظات الأخيرة
..
لقد كان هو الخيط الرابط بين البداية والنهاية ..بين الفتى
والكهل وبين عدنك في الستينيات وعدنك في 2005 م .
كثيرون يتعثرون يا أبي في معركة الحفاظ على الذات، بل أعلنوا
هزيمتهم. معركة ان تكن انت بلا رتوش ولا مزاعم.
كنت من بين قلائل تكتب قصتك الفريدة، ربما اغضبت كثيرين بصراحتك،
لكنك في النهاية فزت بنفسك وتلك معركة ينتصر فيها القليلون لأن كلفتها باهظة .
أعلنت نفسك دوما لتبقى كما انت حتى آخر نفس..
كلما تذكرتك أختنق بوجعي وأشعر انك تعاتبني في رقدتك الأخيرة
.
وددت لو كنت حملت معك لوعتك الى عدن ورافقتك في رحلتك الاولى
والاخيرة للمدينة التي تركتها شابا يافعا، وعدت اليها في الرمق الأخير..
وددت لو كنت بجوارك اشم رائحة ذكرياتك، وأتحسس معك بقايا
عرقك على الدكة .. والتقط الى جوارك الصورة الأخيرة لأبي محمد يوسف قائد..
هاهي الذكرى الحادية عشرة لرحيلك تقترب، ولا زلت موجوعا حتى
اللحظة بالأسبوع الاخير الفاصل بين عودتك من عدن والنبأ الذي شق قلبي ذات صباح مؤلم
: ابوك مات ...
كنت اتخبط بدموعي وفجيعتي، وأحسست كما لو كنت تركت لي رسالة
عتاب لن يقرأها احد غيري: لماذا تركتني ارافق فتاي الذي كنته وحيدا في عدن ؟
لن أغفر لنفسي حتى ألقاك. كلما أظلم العالم في وجهي أحس كم
قاسيت لتمنحنا بعض تعبك.
أحببت بطريقتك وخاصمت بطريقتك وكنت انت ..وكنت دوما في كلا
الحالين صادقا وذلك وحده يكفي .
في العام الماضي زرتك في مرقدك الأبدي بالقرية ، أحسست بحرارة
روحك تحيطني وقرأت الفاتحة وكنت أود لو أحيل قبرك الى بستان ورد ..
الى جوارك تركت طفلتي ايلين ابنة الخمسة أيام، رحلت لأن حرب
العصابات الطائفية حرمتها العناية الطبية اللازمة، بل حولت مستشفى الطفولة الوحيد في
تعز الى ثكنة، توزع من خلاله الموت بدلا عن الحياة كما هي وظيفته.
وضعتها ملاصقة لقبرك تماما ربما كإعتذار مفجوع وكنت أفكر
وقتها أن أكتب على شاهد قبرها : أنا حفيدتك ايلين، أشعر بالبرد ، خذني الى حضنك يا
جدي ..
افتقدتك كثيرا أيها المحب الراحل الكتوم، وأشعر منذ رحيلك
الفاجع بشوق جارف لأحضنك كما لم أفعل من قبل .. لأقبل جبينك المتجعد بصرامة وأضع كفك
على قلبي .. كنت بحاجة للحديث إليك، وقد فعلت، وأحس أنك رحلت للتو. أشعر أنك تسمعني
فتلقي علي بنصف
إبتسامة وتعود الى صمتك الأبدي .
أطلب منك الغفران ولك من الله المغفرة .
رحمة الله تغشاك يا أبي .. تكلاؤك عناية السماء ..
تولاه ياربي بعفوك وكرمك وأجعل روحه في عليين مع صحبة كرام
بررة..
من صفحته على الفيس بوك


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق