حسن العديني*
لا أفهم سبب تطير رجال دين وساسة إيرانيين من وثائق
نشرتها وكالة المخابرات الأمريكية تكشف رسائل من مؤسس الجمهورية الإسلامية إلى الرئيسين
جون كينيدي وجيمي كارتر تتضمن تطمينات لضمان المصالح الأمريكية في المنطقة إذا وصل
إلى السلطة.
لا أفهم ذلك إلا إذا كانت هناك مظانّ وشبهات حقيقية،
ومن غيرها فإن من الطبيعي أن يؤمن الخميني مشروعه من دولة تمارس تأثيراً في بلاده.
وكما نشر فإنه حدد المصالح دون حرج واعداً بتأمين النفط
مؤكداً ألا يكون مصدر إقلاق للمنطقة برغبة تصدير الثورة. ولا بأس أن يلتزم باستمرار
تدفق النفط، وأما عن عدم إشعال الحرائق فذلك ما ليس مهماً عند الأمريكان، بل لقد كان
مرغوباً ومطلوباً.
وقد نتذكر موضوعاً موثقاً للدكتور عبدالله النفيسي
في مجلة «المستقبل العربي» عرضت لملخصات أبحاث أعدتها مراكز أمريكية متخصصة اهتمت بمناقشة
تداعيات الارتفاع في أسعار النفط بعد حرب أكتوبر 1973 وعرضت إمكانية التدخل لحماية
المصالح الغربية في المنطقة المليئة بالحقول والوعود.
وذهبت الأبحاث إلى إثارة مخاوف محتملة من تدخل عسكري
قد يعيد فيتنام أخرى مستبعدة ذلك في تضاريس لا توفر الصحراء ما أعطته الأدغال من بيئة
شن حرب عصابات ناجحة. وإذن فإن التدخل ممكن وبقي البحث عن مبرراته، وكانت الولايات
المتحدة لا تقدم على دور الوكيل للمجتمع الدولي دون تأشيرة من الأمم المتحدة.
موضوع النفيسي نشر قبل اجتياح العراق للكويت وفي غضون
حربها مع إيران، تلك الحرب التي تمنى ريتشارد نيكسون في أحد كتبه ألا يخرج أي من طرفيها
منتصراً. وفي ذلك الكتاب (نصر بلا حرب) يرى نيكسون أن الانتصار على الاتحاد السوفييتي
لا يجب أن يخلف أمريكا دون عدو يبقي همتها يقظة ومتحفزة، وبعد استعراضه منافسين اقتصاديين
من التنين الصيني إلى اليابان وحتى ألمانيا رأى الإسلام عدواً ضرورياً يتوجب اختراعه.
في تلك الفترة من السبعينات نشطت مراكز أبحاث في الولايات
المتحدة، وفي الغرب عموماً، في دراسة الإسلام بما يحتمل أن يمثله من طاقة ثورية تشكل
تهديداً للمصالح الغربية بعد أن تراجعت قوة اندفاع حركة القومية العربية وبما يمكن
على العكس توظيفه قوة هدامة في المجتمعات العربية والإسلامية وفي الشرق الأوسط بالذات
حيث «إسرائيل» والنفط وعقد المواصلات.
وكذلك ظهرت ثورة في إيران ذات نبرة إسلامية حادة لا
تثير المخاوف عندهم بقدر ما أنها مطلوبة لذاتها ولتداعياتها. غير أنه من اللازم النظر
إليها في سياق أحداث كثيرة وكبيرة أيضاً شهدتها المنطقة بينها روابط واصلة وعرى وثيقة.
وفي تلك الفترة وقع الحدث الصاعق في خط الصراع العربي
«الإسرائيلي» بالزيارة الدراماتيكية للرئيس المصري أنور السادات إلى القدس وخطابه التمثيلي
أمام «الكنيست» (سيكون مبكياً أن يطلب رئيس الوزراء «الإسرائيلي» الحالي من أصحاب المبادرات
أن يعرضوا على «الكنيست» قبل أي شيء). وربما كانت سخرية من التاريخ أن مسار المحادثات
المصرية «الإسرائيلية» انتهى إلى كامب ديفيد في ذات الشهر الذي جلس فيه الخميني حاكماً
على سجادة إيرانية ثمينة.
وفي تلك الفترة وقع انقلاب الفصائل الماركسية، إبريل/نيسان
1978، ضد رئيس جمهورية أفغانستان الصديق لموسكو الأمير السابق محمد داود شاه وتوالت
بعده انقلابات أتى آخرها ببابراك كارمال الذي طلب تدخلاً مباشراً من السوفييت لحماية
نظامه المتوتر من هجمة إسلامية تغذيها الاستخبارات الأمريكية، وفي هذه الحرب تضافر
المال والسلاح والمخدرات والتجسس.
ولم يكن من المفارقة أن تفصل خمس سنوات بين سقوط النجاشي
هيلاسلاسي في الحبشة وانهيار عرش الطاووس في فارس، ثم لا تبدو القسمات متنافرة بين
الثورية الماركسية في محيا مانغستو الجذاب والغلو الإسلامي في وجه الخميني المتجهم.
ومن قبل كتب مفكر أوروبي أن الديمقراطية في الغرب لن تذهب إلى تحييد الجيش عن السياسة
وأن الانتخابات إذا جاءت بأغلبية للشيوعيين فسوف ينزل العسكر إلى الشوارع. وكان هذا
في زمن تقدم توالى للحزب الشيوعي الإيطالي، والفرنسي من بعده، في حيازة مقاعد إضافية
بالبرلمان مع كل انتخابات جديدة.
مع كل هذا ورغماً عنه فإن التاريخ ليس مؤامرة وإن كانت
هذه حاضرةً فيه، ومنها ممزوجة بالتواطؤ والصمت تتولد تحولات مذهلة، لكن الأهم قراءة
الأحداث متصلة ومترابطة لكي لا يتطير ساسة ورجال دين إيرانيون من وثائق أمريكية تتحدث
عن قنوات فتحت بين الملالي في قم والرؤساء في واشنطن. ولئن كانت الصلات بين هنا وهناك
خيوطاً من حرير في ذلك الوقت فقد تحولت إلى شرارة من نار لم تزل المنطقة تحترق بها
وتصطلي بعذاباتها.
*المصدر: صحيفة الخليج
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق