هشام محمد
_______
تختصر الديكتاتوريات في رؤيتها للسلطة والحكم كل مفاهيم الوطنية والمصلحة العامة، فهي ترفع في خطابها من غنائيته الوطنية، لتستحوذ على أكبر مفاهيم التربية الوطنية، وتضعها متراساً خطابياً يقصف وعي العامة، وبالأخص شريحة الأميين سياسياً، والتي تضم متعلمين وأساتذة جامعات وموجهين للرأي العام، متواطئين مع الخطابات المترهلة، ومساهمين في تزييف وعي المجتمع.... إن الحزب الذي تقترحه السلطة السياسية ليمثلها، خاصة إذا كانت ذات جذر عسكري، عادة ما تزدحم أدبياته بمفردات وطنية، ولكن بمفاهيم شمولية صارمة، يقتصر عليها دون سواها من التوجهات السياسية.
وفي العادة تخلط السلطة مفاهيم السياسة والدولة بالدين، وترفع من رطانة الخطاب الموجّه للعامة، وتجعله مثقلاً بمفردات تلامس التوجه العام للمجتمع. فمثلاً، تعلي من نبرة الخطاب الديني، وتعزز التوجس الإجتماعي من أطماع خارجية مفترضة، أو تصنع عدواً افتراضياً لتبدو في صورة أكثر واقعية وعملية، تدغدغ عواطف العامة، وتستنفرها تجاه قضايا هامشية... إلخ. كما تستخدم مصطلحات تجذب انتباه واهتمام ومؤازرة العامة، وتحولها عن حقيقتها، خاصة فيما يتعلق بالحكم والدولة، كالديمقراطية، وتعتبر أن الإستحقاقات التي تمنح للمواطنين مكرمة منها.
فالحزب الذي تشكله السلطة ذاتها في أوج هيمنتها يكون بمثابة أسرة للحكم، حتى ولو وجدت أحزاب أخرى. فهرم الحزب يصير تحالفاً لضمان استمرار الهيمنة على السلطة، ويشكله اللاعبون السياسيون المتحالفون مع الحاكم، وهم أصحاب المصالح، وتضخ آلته الإعلامية خطابات فضفاضة، تحمل عناوين عريضة زائفة، لا تصمد أمام التدقيق والتحليل في ممارسات السلطة.
عندما تشكل «المؤتمر الشعبي العام» في العام 1982م، تشكّل باعتباره حزب السلطة، أو السلطة ذاتها. فعلي عبد الله صالح، رئيس الحزب ورئيس النظام وقائد الجيش والأمن.
وفي ظل شمولية عسكرية مطلقة على الحياة السياسية، وإسناد من القوى القبلية المرتبطة مصالحها بالسلطة، وتهميش واضطهاد للمعارضين سياسياً وقبلياً... لم يكن لمسمى حزب أو تنظيم «المؤتمر الشعبي» الذي تم إطلاقه على الكيان الحاكم أي دلالة ديمقراطية، ولو على طريق اعتراف النخبة السياسية الحاكمة بالتعددية التي فرضتها فيما بعد اتفاقية الوحدة، وظلت النخبة الحاكمة تنظر إلى الأحزاب، خاصة ذات الأفكار التي لها امتداد ووجود في دول أخرى، على أنها أحزاب غير وطنية.
إن أي قراءة فاحصة لحزب أو تنظيم «المؤتمر» الذي هيمن على السلطة والحياة السياسية لأكثر من 35 عاماً، لا تستطيع الإكتفاء بقراءة أدبياته، دون اعتبار لممارساته في السلطة، وهو الذي تشكل ليكون حزب سلطة وليس غير ذلك، وظل من العام 1982 إلى 1990م الحزب الأوحد في شمال البلاد، وظيفته احتواء النافذين، أو الطبقة الحاكمة التي جمعتها المصالح المشتركة، مستفيدة من تقاسم المال العام، والتي كانت تتبادل أدوار المنفعة فيما بينها، والحماية من المساءلة أيضاً، وهي بذلك تجاوزت مفهوم العائلة الحاكمة إلى لوبي الحكم المكون من تحالف للمتنفذين في البلاد، واختصرت في تحالفها الوطن والوطنية.
وتكون هذا التحالف من جنرالات الجيش ومشائخ القبائل والتجار ورجال الدين والموظفين البيروقراطيون المهيمنين على القرار والإدارة. إذاً، فهو قوة تتحكم وتمسك بزمام السلطة والثروة، وتتقاسم مقدرات الوطن، ليس لديها أي أيديولوجية تتقيد بها، ولا تهتم سوى بالسلطة، واستمرار هيمنتها، وتقاسم الثروة المرتبطة بها. فـ«المؤتمر» أنشئ ليكون تحالفاً سلطوياً متفرداً بالحكم، وأخذ مسمى الحزب؛ ليس لإيمانه بالديمقراطية، بل للشمولية المضمرة في خطابه، باعتباره جامعاً للناس ولقطع الطريق على دعاة التعددية، وباعتبار أنه حزب للوطن ويجسد وحدة الصف، وذلك استغلال واشارة وتلميح لآيات قرآنية تتحدث عن موضوع آخر، ويتم توظيفها باعتبار التحزب (تعدد الأحزاب) تفرقة لوحدة الصف، وهو تفسير خاطئ وتعسفي.
إن الكيانات الحاكمة التي تختزل الأوطان فيها لا تصنع ديمقراطية حقيقية، وهي كيانات قمعية بطبيعتها، ولا تسمح لمجتمع مدني بالتشكل، ولا بحرية الرأي والتعبير.
وعندما تكون القوى القبلية النافذة جزءاً من ذلك التحالف، فإنها تجعل من المدن عبارة عن تجمعات سكانية قروية، تحتكم للعصبيات القبلية، وتكرس التخلف في المجتمع، ولا تصنع دولة مؤسسات، لذلك هي شبه دولة، ومؤسساتها توظف لخدمة اللوبي الحاكم (حزب السلطة).
وإذا خسر الأخير السلطة، فإن السلطة العسكرية التي وُظفت لصالح الحزب تعمل على عسكرة مجتمع المدينة، وتحويله إلى مربعات أمنية.
والتحالف الحاكم في اليمن، «المؤتمر»، لم يكن يؤمن بالتعددية السياسية، واستخدم مفردات الديمقراطية والتنوع والتعايش يافطات فقط تمنحه شرعية لاستمراره في السلطة، وقمع الأصوات المنادية بها، واحتلال المساحة التي تتحدث تلك الأصوات منها، مستفيداً أو مقلداً تجارب ديكتاتوريات عسكرية. فالديمقراطية فرضت نفسها في مرحلة الوحدة، فكانت بالنسبة له مناسبة لتجديد استمراره في السلطة تحت لافتة الديمقراطية، التي لم يكن منها إلا اسمها، خاصة بعد اجتياح الجنوب في حرب صيف 94، وإزاحة شريك الوحدة، الحزب الإشتراكي، ليظل هذا التحالف تحت مسمى حزب «المؤتمر» يغير من طرق تجديد استمراره واستحواذه على السلطة وتسخيره للمال العام لصالحه، وما زال.
نقلاً من موقع العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق