حاورته: رحمة الباهي
_______________&
أثّث المفكر والباحث المغربي سعيد ناشيد مؤخرا بتونس العاصمة محاضرة تحت عنوان "الإصلاح والفتنة" من تنظيم مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث وجمعية الدراسات الفكرية والاجتماعية.
وقد كان لحقائق أون لاين حوار مع المفكّر الذي يصفه البعض بـ"المثير للقلق" بمعنى أنه يدفع إلى التفكير وطرح التساؤلات التي يتهرّب منها الكثيرون ولكنها يبنغي أن تُطرح، تحدّث فيه عن دور الفرد الهام والأساسي في الانتقال من القدامة إلى الحداثة، وهو دور غائب في مجتمعاتنا الديمقراطية.... وفي ما يلي نصّ الحوار:
أي دور للفرد في الانتقال من القدامة إلى الحداثة؟
الفرد هو المدخل الأساسي للانتقال من عالم القدامة إلى عالم الحداثة. ومن دون هذا المدخل لا يمكننا أن نلج إلى عالم الحداثة. الفرد هو المدخل الأساسي وحامل العقل الاجتماعي والموضوع الأساسي لحقوق الإنسان. وهو أيضا البنية الأساسية لكل ما يمكن أن يبنى من عقل اجتماعي. الفرد كأداة واعية وأداة تمتلك إرادة هو النقطة الاساسية في قضية الديمقراطية وهو الذي يدخل الى مخدع التصويت كي يصوت في الانتخابات. الفرد هو المنطلق وهو الذات.
المشكلة أن الفرد عندنا في ثقافتنا ومنظومتنا الثقافية هو كائن مشيطن. في بنيتنا الثقافية نحرضك على أن تلتزم بالجماعة وأن لا تفكر كفرد بل أن تفكر في إطار الجموع. وهذا امتداد لغرائز القطيع بحلّة قد تتخذ في بعض الأحيان ثوبا دينيا ولكن هذا الثوب زائف لأن الأصل أننا أمام غرائز القطيع التي تستيقظ عند البعض ولو بثوب آخر. عندما يعتقد الأفراد والأشخاص أن دورهم هو حراسة الإناث، إناث العشيرة أو القطيع، هذا أيضا من امتدادات غرائز القطيع البدائية.
الفرد هو لحظة القطيعة مع موروث الغرائز البدائية الذي امتد واستمر في منظومة القدامة بكل مفاهيمها الدينية وغير الدينية.
ما هي آليات تغيير الفرد في مجتمعاتنا العربية؟
عندنا الفرد مشيطن. في كثير من مجتمعاتنا يقول شخص أنا ثمّ يلحقها بـ"أعوذ بالله من كلمة أنا" أو يقول العبد الفقير إلى ربه.. كلمة "أنا" لا يستطيع أن ينطقها.. عندما لا يستطيع أن ينطق كلمة "أنا" فهذا يعني أنه يتنصّل من المسؤولية ويلقيها على الآخرين. يلقيها على المؤامرة أو على الشيطان أو على الله. أي أنثولوجيا لا يتحمل المسؤولية.
الانتقال من ثقافة الاتكال والتواكل إلى ثقافة المسؤولية يعني إعادة الاعتراف بالفرد. هذا يقتضي ثورة ثقافية بدرجة كبيرة. ثورة في الأذهان قبل الأعيان.
بطبيعة الحال استراتيجية التخويف هي عنصر أساسي في إبادته ومحوه لأن الفرد الخائف يمّحي فيطلب الأمان في مجموعة معينة. ما تفعله بعض المجموعات الأصولية فعلا هو أنها عبر استراتيجية تخويف الفرد من الموت والفناء والعقوبات التي قد تلحقه باسم الشريعة، تهدف إلى محو هذا الفرد لكي يطلب دائما الأمن من مجموعة معينة ولو بنحو وهمي وواهم. يلتصق بها فيفكر كما تفكر ويتصرف كما تتصرف. والإنسان في إطار القطيع والجموع يغيب العقل لديه ويتصرف بنحو غريزي في كل المجموعات سواء كانت دينية أو رياضية.
بالحديث عن الجماعات الإرهابية، هل تعتقد كما يذهب إلى ذلك البعض في مقولة أن الإرهاب الداعشي له جذور في ثقافتنا الإسلامية تاريخا وقرآنا؟
بكل تأكيد هناك جذور في موروثنا الديني.
والموروث الديني نقصد به كل الاجتهادات ورؤيتنا الدينية كما طورناها انطلاقا بطبيعة الحال من النص. هناك إشكالية في النص تتعلق بما إذا كنا نقصد به القرآن أو الأحاديث باعتبار أن المتن الحديثي فيه رصيد كبير للفكر السلفي المتطرف.
لكن بشكل أساسي يمكن أن نتحدث عن "الانقلاب السني على القرآن"، كما وصفه جورج طرابيشي.
وأعتبر أن لحظة الشيخ ابن تيمية الملقب بـ"شيخ الإسلام" لحظة مفصلية في تأسيس أو إضفاء الطابع المتطرف أو العنيف على ديننا. هذا الشيخ في مجموع فتواه أكثر من 200 فتوى تتضمن الصيغة التالية "يستتاب وإما يقتل". وهو المرجع الأساسي والجذع المشترك لكافة تيارات الإسلام السياسي سواء ذاك الذي يصنف نفسه ضمن المعتدل أو ما يصنف نفسه ضمن المتطرف. إذا بحثنا في مرجعياتها جميعها نجد لحظة الشيخ ابن تيمية.
ولكن عدّة جماعات إرهابية تستند إلى بعض الآيات القرآنية؟
المشكلة بدأت بتصنيف القرآن بين قرآن مكي وقرآن مدني. هذا التصنيف غير صحيح لأنك لن تجد أي سورة من سور القرآن باستثناء السّور القصيرة نزلت كاملة إما في مكة أو في المدينة. وبالتالي يطرح الإنسان سؤالا حول أسباب الإلحاح على تصنيف السّور.
هذا التصنيف أعطانا مشكلة تتمثل في كون سور القرآن التي نزلت بعد الهجرة والتي هي فعلا تتميز بقدر من العنف والتوجس والاستنفار للقتال، نظرا لأن المرحلة كانت انتقالية ومظلومية، مرحلة غادر فيها النبي مكة وكان ينوي أن يعود إليها، حتى في القرآن نجد أحاديث تتكرر "لتنذر أم القرى وما حواليها" وكأن العودة إلى أم القرى ومكة هو الاستراتيجية الأخيرة للفتوحات بالمعنى المحمدي، فكانت هناك مرحلة انتقالية، وهي مرحلة ما بين الهجرة والفتح، ولكن هذه الفترة أقحمت ضمن ما يسمى بالقرآن المدني. وهذا القرآن المدني أُعتُبر أن بعض أحكامه تتعارض مع القرآن المكي بأنها ناسخة للقرآن المكي.
وبالتالي أصبحنا نجد آيات مركز الثقل هي آيات الجهاد والغنيمة والسبي لتترك الآيات التي تتحدث عن القيم.
الفقهاء أنفسهم، وهم جوهر المشكلة، اشتغلوا في عصر موسوم بالتوسعات الامبراطورية. وكانوا يخدمون هدف هذا التوسع ويستنبطون الأحكام بهذه الغاية. كانت هذه غايتهم الأساسية وبالتالي ركزوا فقط على المفاهيم التي تخدم قضية التوسعات الامبراطورية مثل الجهاد ودار الحرب ودار الإسلام والولاء والبراء. هذه كلها مفاهيم بُلورت بطريقة من النص القرآني خاصة المتعلقة بالمرحلة الانتقالية ثم أخذت على اعتبار أنها التصور الأساسي للإسلام.
ولكن ليس هذا التأويل الوحيد. هناك تأويلات أخرى مثل تأويل ابن عربي، وهو تأويل لا أجمل منه، يقوم على أساس أن كل الأديان متكافئة وهذا ما يفتح الباب أمام إمكانية إعادة بناء البنية الذهنية من جديد.
في المقابل مسألة إعادة بناء الذهنيات تطرح صعوبات جمّة خصوصا وأن المسلمين يعتبرون القرآن نصا مقدسا وأنه "كلام الله" ويرفضون حتى مناقشته أو الاجتهاد في تنزيله على حياة المواطنين خلال اللحظة المعاصرة وفقا لقراءة مقاصدية عقلانية؟
حاولت أن أبرهن في كتابي "الحداثة والقرآن" أن أبرهن أن القرآن ليس نصا مقدسا. هو فعلا وحياني من حيث الصور ولكنه محمدي من حيث صياغته التي تمت بشروط معيّنة في ظروف معيّنة خاضعة لمزاج الرسول ونفسيته وثقافته ولغته. ولو تعلّق الأمر بشخص آخر في سياق آخر لتحصّلنا على نصّ مختلف.
ثمّ إن شروطه وتجميعه وتبويبه كانت تاريخية.
أيضا عندما جمعوا الآيات أعطتنا نصّا مبنيا على تأويل. كذلك لم يكن منقطا في الأول ثم وقع تنقيطه. الحراك الذي أنتج المصحف هو حراك بشري وليس إلهيا.
أعتقد أنه ليس ضروريا أن أقدس القرآن كي أكون مؤمنا. قد أكون مؤمنا لكن دون أن أرهن عقلي ودماغي لأي نص كيفما كان. هذه هي المعادلة التي حاولت جاهدا أن أكافح من أجل بيانها.
كثر الحديث مؤخرا عن عودة إرهابيين من بؤر التوتر إلى تونس وبرز معها حديث عن "قانون التوبة" وإمكانية قيام هؤلاء بمراجعات. هل تعتبرون أنه يمكن لجماعات متطرفة أن تقوم بمراجعات فعلية؟
المراجعات التي أثبتت نجاعتها نادرة جدا. والنادر لا حكم له كما يقول الفقهاء.. وحتى ما يقصدون بالمراجعات هو عادة مراجعة الموقف من الحاكم رأس السلطة وهذا أسهل ما يكون بالنسبة إليهم. إنما المراجعات الحقيقية هي التي تقتضي إعادة النظر في الموقف من المرأة والأقليات والعقل، والموقف من علاقة العقل مع النص ومن الشريعة ونظام العقوبات فيها. هذه المراجعات الحقيقية التي ننتظرها أما ما يحدث في كثير من الدول فيقال فقط أنهم اعترفوا بالسلطة الشرعية فهذا مراجعة ثم يقولون ما شاؤوا في المرأة والأقليات والخصوصيات الفردية. المراجعات تعني الإصلاح الديني أولا.
هل أصبح العرب والمسلمون مهددين بالخروج من التاريخ مثلما حصل لحضارات أخرى تاريخيا كالأزتاك في وقت ما؟
نعم. كثير من المتطرفين يروجون بأن الإسلام مهدّد ومستقبله لن يكون بخير وهي حقيقة إذا ألححنا على الاستمرار في هذا المسار وهذا التدمير.
ما يقوم به المسلمون الآن هو تدمير دينهم باسم الدين. يزايدون بالدين على الآخرين ويدمرون أنفسهم ويدمرون دينهم. إذا استمررنا على هذا الشكل لن يستمر الدين في المستقبل. لن يكون المستقبل إلا للأديان التي تتصالح مع العقل والعلم والمعرفة.
أما هذا الشكل من التنطع فأخشى أن يتعلق الأمر برقصة الديك المذبوح وليس هذا ما نريد. نريد أن نحافظ على ديننا كإرث إنساني. ليس من حق أي أحد أن يعبث به ومن الواجب أن لا نترك الآخرين يرهنون ديننا ويعبثون به. ومعركتنا هي أن نسترد ديننا وأن نصلحه لأنه حتى بالمنطق الديني التجديد ضروري ولن يستمر شيء دون تجديد. أعتقد أننا الآن في هذه الفترة مع هذا الحجم من الفتن باسم الدين والمزايدة والتنطع بالدين تحت مظلة خطاب ديني كل ما يفعله أنه يؤجج الانفعالات السلبية والغضب والغيرة.
تصور أننا عندما نسمع خطابا دينيا في خطب الجمعة يقول الوعاظ إن الغضب والغيرة هما أخلاق المسلمين. متى كان الغضب أخلاقا؟ كارثة. متى كانت الغيرة أخلاقا؟ كارثة. متى كان الثأر أخلاقا؟ كارثة. نحن أمام كارثة أخلاقية وطبيعي أن تشهد شعوبنا مدّا في التديّن وجزرا في الأخلاق ومدّا في الحجاب ولكن أيضا مدّا في التحرش. نحن نتديّن يوما بعد يوم ولكن أخلاقنا تدمّر يوما بعد يوم.
ربما لأن هناك اعتقادا راسخا لدى مجتمعاتنا العربية والإسلامية أن المسلمين يكتسبون الأخلاق فقط لأنهم مسلمون؟
تماما. وكل ما نملكه هو الانفعالات السلبية. لدينا قدرة على الغضب.
الغيرة مثلا من أخلاق القطيع كانت مبررة عندما كنا نعيش كقطعان برية حيث كان الذكور يضطرون لحماية الاناث لأنها مستقبل القطيع كما في سائر الثدييات. ولكن أن نتصرف بهذا الشكل بعد أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه في مدارج الإنسانية فكارثة حضارية.
هل فندت تجربة الإسلاميين في تونس والمغرب وتركيا أطروحة ان الإسلام والديمقراطية خطان متوازيان لا يلتقيان؟
آخر رهاناتنا على أن بعض الإسلاميين يمكن أن يتصالحوا مع الديمقراطية هو رهان يوشك على الانهيار لا سيما بالنظر لما يحدث في تركيا. تركيا كانت تُقدّم دائما على أنها النموذج الأكثر اعتدالا للإسلام السياسي. حتى أمريكا دعمت هذا النموذج منذ البداية.
ما يحدث الآن في تركيا مخيف ومرعب ومرهب. ويعني أن هذا الرهان القائل إن بعض الإسلاميين يمكن أن يتصالحوا مع الديمقراطية يمكن أن يكون رهانا مفلسا.
وفي التجربة التونسية نجد حزب النهضة في تونس ولا نتحدث هنا عن حزب منسجم بل تخترقه تيارات وبالتالي لا نعرف الكثير عن مآلات هذه التجربة.
ربما ما قد يوحّد الإسلاميين في بعض الأحيان هو شعورهم أن موازين القوى ليست في صالحهم ولكن كلّما أدركوا أن موازين القوى في صالحهم تظهر الخلافات بينهم كتيارات.
ولكن لدي قناعة أننا لا يمكن أن نتحدث عن مصالحة أو تغيير أو تجديد أو اعتدال أو وسطية بالمقياس السياسي. أنت لديك مرجعية. ناقشني في المرجعية. ماذا تغيّر من مرجعيتك. لا تقل لي فقط أنا تصالحت مع الديمقراطية ولكن ماذا تقول في الشريعة وابن تيمية والفتاوى والنصوص القرآنية. هذا ما ننتظره وهذا هو الضمانة لمعرفة ما إذا كان هناك فعلا تجديد.
هناك من ينتقدك باعتبار قراءاتك وتحاليلك فيها احتقار للذات العربية والإسلامية وإعلاء من شأن الآخر الغربي؟
أظن عكس ذلك تماما. الذي لديه فعلا غيرة، ولو أن هذه الكلمة قلنا إنها من الانفعالات السلبية، من لديه غيرة على الذات، يجب أن يفهم أن حفظ الذات وحمايتها والنهوض بها والرقي بها يستدعي بشكل أساسي القدرة على نقد الذات.. لا يمكنني أن أطور ذاتي إذا لم أكن قادرا على نقد ذاتي باستمرار.
إذا كنت سأكذب على ذاتي وأوهمها لتظل راقدة نائمة في سباتها العميق فأنا لا أخدم الذات بل أنا أدمرها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق