هشام محمد*
_______&
لم يكن المجتمع اليمني قد تخلى كلياً عن ثقافة التمييز المناطقي والجهوي والسلالي عندما بدأت هذه الحرب؛ فتواجد بذور الفكرة الكامنة لدى الأفراد في مجتمعنا من عدمه يعود في الأساس إلى الانتماء وطبيعة البيئة والتنشئة الإجتماعية، والارتهان للواقع الإجتماعي والثقافي للمجتمع، وطبيعة العلاقات وبنائها، وتلك البذور هي التي تفسر انتشار العصبيات وقابلية بعض أفراد المجتمع للانقياد تحت رايتها.
ومسألة الحد من ازدهار فكرة التمييز المناطقي، ومنعها من التحول إلى عصبيات - بالرغم من أنها كذلك - تظل مرهونة بمدى انشار الثقافة المدنية كسلوك اجتماعي مؤسسي، ناتج من تحولات اجتماعية سياسية فرضت نفسها على المجتمع، وأرغمته تدريجياً على التخلي عن أفكار التمايز الإجتماعي.
ولعل أحد تلك التحولات المفترضة يعود إلى آلية نشوء المدن وازدهارها، وبداية ذوبان أو تمازج الثقافات المحلية القروية وانصهارها مع بعضها، لصالح مجتمع المدينة، حيث المجتمع يتخلى عن تحيزاته المناطقية والجهوية وقوانينه وعاداته وأعرافه لصالح القانون العام المتفق عليه، وتصبح الحياة قائمة على تبادل المنافع، والعلاقات بين الافراد كأعضاء في المجتمع تحكمها الروابط الشخصية كأفراد، متحررين من الإلتزامات والخيارات والأنماط التي تفرضها التجمعات السكانية المغلقة، القائمة على العصبويات وروابط الدم والولاءات والمكان... إلخ، والتي تحكمها تراتبية محددة، ونمط عيش وقوانين وأعراف في العلاقات الداخلية بين أفراد المجتمع.
إن التحرر من تلك الأنماط كان مرهوناً بمدى قدرة الدولة على إدارة سياسات تنموية شاملة، قادرة على انتشال بقايا بذور التعصب أو الشعور بالتمايز المحمول في اللاوعي لدى الأفراد، وذلك لا يكون إلا في ظل دولة ديمقراطية، تجسد العدالة والمساواة وتحفظ الحقوق الفردية، ويكون فيها الفرد في مجتمع «المدينة» فرداً مؤثراً أو فاعلاً في صناعة القرار، كما يرى المفكر عزمي بشارة.
والتساؤل الذي قد يتبادر إلى الذهن: لماذا نلاحظ استمرار التمايز المناطقي، والسلالي، والجهوي، في داخل مدننا الكبرى، بل في أكثر المدن نسبة في التعليم، على الرغم من أن عمر التجمع السكاني في المدينة يمتد إلى مئات السنين، وأيضاً بالرغم من أن الخطاب العام المجتمعي والرسمي للسلطات ظل يدعي المساواة والأخوة؟ إن التعامل اليومي، والأحداث المتتالية، تكشف زيف ذلك الإدعاء، وكمثال عابر وبدون تفصيل ما كُشف عن مشروع الفيدرالية وتعاطي النخب معه.
وعلى صلة بذلك، نجد أن التمايز السلالي والجهوي أصبح قانوناً غير معلن يتسيد المؤسسات الرسمية، التي يُفترض أن تكون مؤسسات خدمية مدنية، باعتبارها إحدى مكونات أو مميزات المجتمع المدني وتجسيداً لفلسفته.
كما أن الحرب الأهلية كانت كفيلة بإعادة إنتاج كل العصبيات التاريخية، خصوصاً في المناطق والمدن المتضررة من تسلط الحوثيين، الذين تعتقد قيادتهم أن السلطة من حقها، لتستمر سيطرة المركز واستحواذه على السلطة والثروة بصفته مركزاً تاريخياً، فيما على المناطق الأخرى أن تظل هامشاً تابعاً، وفي الوقت الذي ترفع فيه صوتها مطالبة بالمساواة، فالمركز الممسك بالسلطة يعتبرها مناطق متمردة.
لذا، فردة الفعل التي تنتج عصبيات وهويات محلية للمدن هي تفتق لتلك البذور التي حافظت السلطة المركزية عليها بعد أن كانت مستفيدة منها، وذلك يتجلى في المنطق المتعصب المتزايد في المدن الأكثر تضرراً من الحرب، والأكثر التصاقاً بصفة الثقافة مجازاً كعدن وتعز.
وما أود التأكيد عليه أن تلك البذور الكامنة للعصبيات لدى مجتمعات المدن اليمنية، تحديداً تعز وعدن، والتي وجدت قبولاً لدى الناس، تعود في الأصل إلى نمط التجمعات السكانية داخل مجتمع المدينة، ومحافظة أفرادها على ثقافتها الماقبل مجتمع المدينة المبنية على الانتماء الجغرافي والمناطقي داخل المدينة ذاتها؛ أي أن الأفراد يحتكمون لثقافة القرية. ويشير الباحث، محمد البكري، في مقال له، إلى أن المدينة في اليمن تسمية مجازية وليست حقيقية؛ فسياسات السلطة المركزية واحتكارها الخدمات الأساسية في المدن الكبرى أجبرت سكان القرى على النزوح إلى المدن طلباً للعيش، وبالتالي يؤثر ذلك على تخطيط المدينة، ويتجمع أفراد القرية أو المنطقة الواحدة في تكتلات سكنية داخل المدينة باسم العصبية الأولى، عصبية ما قبل المدينة، مما أوجد ظاهرة ترييف المدن، وبالتالي ينقل سكان المدينة العادات والتقاليد إليها، ويظلون يحتكمون إلى أعراف القبيلة أو القرية، ولا يحتكمون إلى القانون، وبالتالي تكون لدينا تجمعات مناطقية وقبلية داخل المدن، وهذا له تداعياته على الديمقراطية وبناء الأحزاب والتخطيط والعلاقات القانونية بين الأفراد والفرد والدولة... إلخ. ومن هنا، نجد أن التمايز في الصورة العامة للمدن، كتجمعات سكانية، سيكون في مدى احتكامها للقوانين المدنية، وليس صحيحاً ما يتم ادعاؤه عن التمايزات الثقافية بين أفراد مدينة وأخرى، أو ثقافة المكان، فهو ادعاء ذو منطق تعصبي آخر لا يقل عن عصبية الجغرافيا.
كون تلك المدن قريبة عهد بالعصبيات الأصغر، ومع انهيار مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية، فإن العصبية كانت خياراً فُرضت على المجتمع العودة إليه، غير أن تلك العصبية الطارئة على المدن الأكثر تجسيداً لمجتمع المدينة، سرعان ما تزول بزوال الأسباب التي فرضتها، شريطة أن تظل كحالات فردية تتلبس الأفراد الذين يجدون فيها ملاذاً للانتماء - كما نلاحظ في مصطلح «التعوزة» - وسقفاً إضافياً للمساواة الجهوية، التي قد تحقق - كضغط شعبي - مطالب اجتماعية وخدمية من أي سلطة قادمة، أو تُستخدم كورقة في مواجهة استئثار المركز بالسلطة والثروة.
لكن التخوف يكمن في أن تتحول تلك العصبية المناطقية من نداءات فردية إلى مؤسسات، تتبنى وترفع التعصب للهوية المناطقية والجهوية، وتعادي بشكل صريح كل فرد لا ينتمي إليها، كما نشاهد في حالة المجلس الجنوبي ضد كل ما هو شمالي، وبلورة ذلك التعصب في مؤسسة سياسية على شكل مطلب سياسي جهوي، يجاري احتقان الشارع بل ويحمله على كتفيه، ويغذيه بخطابه السياسي المتهور الذي يستمده بحذافير من حالة التعصب التي يحملها الأفراد في الشارع، إرضاءً لهم، وإشعالاً لحماسهم، وهو جمهور جاهز، تستطيع القيادة المتعصبة تحويله إلى ميليشيا مسلحة، ذات أيديولوجية مناطقية، في الوقت الذي تريد، والأمر كان جلياً في حروب ومجازر الهوتو والتوتسي.
وفي كل حالات التعصب المناطقي، نجد أن غياب صوت المثقف السياسي، ونخبة المجتمع، عن القيادة المجتمعية، يتيح للمتعصبين والغوغائيين اعتلاء العاطفة الجماهيرية عن طريق إعطائها ما تريد، بل ويزيد من مستوى الشحن التعصبي، والأمر جلي في قيادة «المجلس الإنتقالي الجنوبي»، على العكس تماماً من تلك القيادة المتعصبة في قيادة بداية نشاط الحراك الجنوبي؛ فغياب القائد المثقف السياسي، واحتلال مكانه من قبل الشخصيات المتعصبة مناطقياً أو دينياً، يكون مؤسسة متعصبة يتبعها الآلاف من المتعصبين، وهي في حقيقتها تنقاد للهيجان الجماهيري، وتعزز ادعاءاته، ولكنها لا تقوده أو تهذب وعيه.
* نقلاً عن موقع العربي..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق