محمد الحمامصي
___________&
خصصت اللجنة الوطنية المصرية للمجلس الدولي للمتاحف عددها الجديد من "كراسات متحفية"، عن متاحف اليمن، وأهدته إلى روح د. عبدالحليم نور الدين الذي رحل عن عالمنا بعد سنوات من العمل في الحقل الأثري، كما عمل في كلية الآداب جامعة صنعاء لسنوات، وكتب عن آثار ومتاحف اليمن وتتلمذ على يديه عدد من الأثريين اليمنيين.
الكراسة التي قدم لها د. خالد عزب رئيس اللجنة الوطنية للمتاحف ود. ماهر عيسى الأستاذ في جامعة الفيوم، دراسة للدكتور عبدالحليم نور الدين ذكر فيها أن اليمن يمتلك متحفا وطنيا يضم مجموعات متنوعة من المقتنيات الأثرية الرائعة، تجمعت هذه المقتنيات من صرواح ومأرب ومن الحزم ومعين وهمدان وظفار وذبين وتعز وزبيد، ولقد تحول "دار الشكر" الى متحف عام 1971 استجابة لنوبة عارمة من الوعى الأثري الذي انتشر بين أبناء اليمن المثقفين، وقد وضع نور الدين رؤية لإنشاء متحف وطني يليق بالتراث الأثري اليمنى تستحق أن ننظر لها عقب انتهاء الحرب الحالية.
في تقدمته قال خالد عزب "يعود اختيارنا لموضوع متاحف اليمن إلى عمل د. نور الدين لفترة من الزمن في قسم الآثار بجامعة صنعاء، وإسهامه بالكتابة والبحث حول آثار ومتاحف اليمن.
وأضاف "في ظل الحروب تصبح المتاحف على خط النار، والحرب الأخيرة في اليمن أثرت بالسلب وبصورة كبيرة على أوضاع المتاحف باليمن، وليس لدينا إلى الآن تقرير واضح المعالم ومتكامل عن أثر الحرب الأخيرة على المتاحف اليمنية التي يقدر عددها 22 متحفا.
لذا رأت اللجنة الوطنية المصرية للمتاحف نشر هذه الكراسة؛ لكي تثير اهتمام الباحثين والمثقفين والسياسيين بوضع التراث في اليمن. فإغلاق متحف بيت الموروث الشعبي في عام 2010، قبل اندلاع النزاعات السياسية في اليمن كان مؤشرا إلى صعوبة وضع المتاحف.
هذا المتحف الذي أسسته الكاتبة أروى عبده عثمان بدعم من وزارة الثقافة اليمنية في عام 2004، وهو يقع في وسط العاصمة صنعاء بالقرب من ميدان التحرير والسفارة المصرية والسفارة الصينية، لكن إذا رأينا المشهد الحالي لأوضاع المتاحف في اليمن، فسنجد أن هناك اضرارا جسيمة لحقت ببنيات المتاحف فضلا عن مقتنياتها، ومن ذلك ما لحق بالمتحف الحربي في عدن الذي شيد عام 1918 كمدرسة ابتدائية وحول إلى متحف عام 1971. وهو متحف به 11 قاعة تضم خمسة آلاف قطعة، ويحكي جانبا مهما من التاريخ الحربي لليمن. هذا المتحف كان قبلة للسياح، هدمت واجهته الشرقية، وتذكر بعض التقارير نهب بعض مقتنياته.
وأكد عزب أن اليمن هذا البلد الثري بحضاراته وتراثه منذ عصور ما قبل التاريخ إلى الآن أصبح بحاجة ماسة لحملة دولية للتدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه الآن، لذا أطلقت اليونسكو حملة وبعض المتاحف حملات أخرى، لكن هذا لن يتأتى إلا عبر صندوق إنقاذ تراث اليمن على غرار صندوق إنقاذ آثار النوبة الذي أسسته اليونسكو والحكومة المصرية بدعم دولي، وكان له الفضل في إنقاذ تراث النوبة ثم إقامة متحفي النوبة والحضارة.
هذه الحملة تعود حتميتها إلى تنوع تراث اليمن منذ عصور ما قبل التاريخ إلى الآن، وهو ما انعكس على عدد المتاحف في اليمن وعلى تنوعها، بل طرافة معروضاتها وجاذبيتها، ومنها متحف العادات والتقاليد في عدن الذي يضم: قسم الأدوات والأواني الشعبية القديمة والحديثة، وقسم الملابس الشعبية المطرزة بالألوان الحريرية المتنوعة والعقود الذهبية وأغطية الرأس المقصبة بالذهب، وغيرها من المعروضات الكاشفة للحياة اليومية في المجتمع اليمني. واليمن مع الألفية الجديدة افتتح متحفا للنباتات أسسته الهيئة العامة للبحوث والإرشاد الزراعي.
ولفت إلى أن أهمية هذا المتحف تعود إلى وجود 850 نوعا من النباتات المختلفة باليمن، منها 250 نوعا متوطنا في اليمن. وتنفرد جزيرة سقطرى بعشرات الأنواع التي لا يوجد مثيل لها أو انقرضت في معظم بلد العالم، فضلا عن تزايد حجم المخاطر التي تهدد بزوال هذه النباتات كالجفاف والتصحر والاستخدام العشوائي والرعي الجائر والتحطيب للحصول على الطاقة.
بدأ الإعداد لهذا المتحف عام 2001، من خلال قيام فرق مختصة برحلات استكشافية لجمع الأنواع النباتية المنتشرة في المرتفعات الجبلية سواء بذور أو نموات خضرية، ومن ثم إعادة زراعتها في مشاتل خاصة، مع العمل على توفير الظروف المناخية والبيئية الملائمة لها، حيث بلغ عدد الأنواع حينئذ 50 نوعا تنتمي لسبع عوائل نباتية.
والمتحف يضم سجلا يتضمن البيانات الخاصة بهذه الأنواع من حيث المنطقة والاسم المحلي والاسم العلمي والعائلة النباتية، كما أن اليمنيين قدسوا قديما بعض النباتات ومنها شجرة اللبان التي تستخدم في البخور، والنقوش اليمنية تفرق بين أنواع النباتات المختلفة المستخدم بخورا.
واللبان عبارة عن صمغ ذي عدة ألوان يخرج على شكل قطرات عند جرح ساق أو فروع الشجرة، ويترك ليجف ثم يحرق وينتج عن ذلك تصاعد دخان كثيف يتميز برائحة طيبة، وقد صدرته اليمن لدول كثيرة منذ عصور التاريخ السحيقة. وقد تعرض متحف تعز للقصف بالمدفعية الثقيلة واحتراقه بمقتنياته ومخطوطاته، وهو في الأصل قصر الإمام أحمد حميد الدين، اتخذ مقرا لحكم اليمن، وتحول إلى متحف يحتوي على معروضات تراثية من مقتنيات الإمام أحمد وأسرته، إصافة إلى أسلحة وصور تذكارية.
وأشار د. عزب إلى أن هناك تقديرات بفقدان خمسة آلاف قطعة من مقتنيات متحف ذمار الذي كان يضم 12500، حيث تم جمع 7500 قطعة بعد استهدافه بالنيران.
لم تكن المتاحف هي التي تضررت فقط، بل إن العديد من المواقع الأثرية تعرضت للتدمير، والتقديرات الأولية تشير إلى تأثر ما لا يقل عن مائة موقع أثري يمني بشدة جراء الحرب الأخيرة، فضلا عن تعرض ما يقرب من ألف موقع لأضرار متوسطة، فيما تعرض ما يزيد على 400 موقع لأضرار جزئية.
وافتتح د. عبدالحليم نور الدين دراسته مشيرا إلى أن الدولة العريقة تعودت من خلال وعي الشعب على أن تتغنى بتراثها، وأن تشهد الدنيا كلها على قيمة هذا التراث، بل تعكف هذه الدول بكل الزهو على ترديد أمجاد الماضي وكأنها تعزف سيمفونية إنجازاتها الحضارية المبدعة. وقد لا تكف عن ترديد هذا الإنشاد وهي تتيه على الدنيا بالإضافة البارعة التي أضافتها الأجيال السابقة العريقة بكل السخاء إلى السيمفونية الحضارية العالمية. وهل تتغنى وتشدو بأفضل من الثروة الأثرية التي تعتز بها، تسبح بحمد الله الذي بصر وألهم الأيدي الماهرة التي اصطنعتها، ورسخت بها الأجداد على التراب الوطني. ويجسد المتحف الوطني في مثل هذه الدول العريقة محراب هذا الإنشاد والتغني البديع الذي تزهو به وتفخر على العالمين.
وأكد أن اليمن يمتلك هذا المتحف الذي يعلن عن الوجه الحقيقي للتراث الأثري اليمني، بل هو محراب الشدو البديع الذي يستعلي به اليمن ويضع نفسه وتاريخه في صف واحد مع أنداده من الدول العريقة ليس على صعيد الشرق الأدنى فقط، بل على الصعيد العالمي كله.
• مكان القلب من العاصمة
ويقع هذا المتحف الوطني للآثار في مكان القلب من العاصمة العريقة "صنعاء" ويحتل مكانا بارزا في "ميدان التحرير" ويحكي مبنى هذا المتحف عن تاريخ اليمن المعاصر في الماضي القريب. ولقد كان المبنى قصرا منيفا من قصور الإمام السابق يحيى بن حميد الدين، وكان معروفا باسم "دار الشكر" اعتبارا من تاريخ البناء في سنة 1930، ولم يكن أفضل من هذا القصر بعد الثورة التي حملت لواء التحرير والتجديد، لكي يصبح متحفا وطنيا للآثار اليمنية، وليس أروع من الآثار العريقة في هذا القصر المنيف.
ويضم هذا المتحف الوطني مجموعات متنوعة من المقتنيات الأثرية الرائعة، وتحكي هذه المقتنيات وتقص شيئا عظيما ورائعا وممتعا ومعبرا بكل الصدق والموضوعية عن تاريخ اليمن القديم، والإسلامي والحديث والمعاصر.
ورائع بالفعل هذا العرض الطيب الذي يسجل استمرار المسيرة الحضارية مثلما يسجل أصالتها وهي تعيش الانفتاح وتعرف كيف تجدد حيويتها من عصر إلى عصر، فلا تنتهي ولا تفنى.
ولفت نور الدين إلى أن مقتنيات المتحف وردت وتجمعت من أنحاء اليمن من "صرواح" و"مأرب"، ومن "الحزم" و"معين"، ومن "براقش" و"السودا" و"البيضا"، ومن "ظفار ـ يريم" ومن "غيمان" و"بينون" و"ناعط" و"النخلة الحمراء" ومن "حجة" و"همدان" و"صنعاء" و"ظفار ذيبين" و"زبيد" و"تعز" ومن "جبلة" و"الجوبة" و"الخضرة"؛ لكي تبرهن أو تدلل عن مدى انتشار وترسيخ الحضور الحضاري على الصعيد اليمني، وأروع من ذلك كله أن العرض في هذا المتحف يعود بمن يزوره في مهارة إلى الماضي، ويتلمس بهاء وحسن الإنجاز الحضاري، وينتقل به في نفس الوقت من مكان إلى آخر على الصعيد اليمني، ويتنسم روائع إنجازات المهارات الحضارية فيه.
وبصرف النظر عن خطايا الحكم الإمامي وهو يتبنى التخلف، ويمارس الظلم الجتماعي، ويبارك الانغلاق الحضاري، ويتعرض إلى التنوير الثقافي والحضاري، انضمت إلى المقتنيات في المتحف الوطني بعض مخلفات أسرة الإمام وبعض الأزياء الشعبية، والبنادق والسيوف والدروع وذلك جنبا إلى جنب مع التراث الأثري الثمين، كما تنضم أيضا بعض الهدايا التذكارية الثمينة التي أهديت لرؤساء الجمهورية العربية اليمنية.
ولقد تحول "دار الشكر" إلى متحف عام 1971 استجابة لنوبة عارمة من الوعي الأثري الذي انتشر بين أبناء اليمن المثقفين، وهو يطلب إبراز وجه اليمن الحضاري، ويفتخر ويزهو به. وقد افتتح هذا المتحف رسميا في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول لكي يصبح أول إشراقة أمل في المحافظة على التراث الأثري اليمني القديم والإسلامي والحديث، وعرضه العرض الذي يليق به في عاصمة الجمهورية العربية اليمنية وهي تسعى ويحدوها الأمل على درب التقدم من جديد.
وأضاف أن قسم الآثار اليمنية القديمة في هذا العرض يمثل أهم أقسام المتحف على الإطلاق، ويضم هذا القسم التراث العزيز من حضارات "سبأ" و"معين" و"حمير"، وهي بكل تأكيد أشهر حضارات جزيرة العرب في القرون السابقة لظهور وانبعاث نور الإسلام.
ويحوي هذا القسم نسخة وصورة فوتوغرافية لرأس آدمية من البرونز، وهو أكثر من رائع؛ شكله الفنان بدقة وإتقان بديع يستحق الإطراء، ولقد عثر على هذا الرأس في مدينة "غيمان" ـ إحدى المدن الحميرية على بعد حوالي 25 كيلو مترا إلى الجنوب الشرقي من "صنعاء"، وذلك أثناء التنقيبات في التلة المقابلة لـ "غيمان" مباشرة، وكان الاعتقاد السائد بين الناس أنها تضم قبر الملك الحميري "أسعد الكامل" ورفاته، كما كانت تضم غيره من القبور التي أثارت وجدان الشعراء وكتبوا فيها أشعارا، كما حفلت كتابات الأقدمين بالتصريح أو بالتلميح إلى ما تتضمنه هذه المقابر من كنوز ثمينة.
ولقد أهدي هذا الرأس آنذاك (النسخة الأصلية المحفوظة حاليا في المتحف البريطاني بلندن) إلى الملك "جورج السادس" عام 1937، بمناسبة تتويجه ملكا على بريطانيا.
• تماثيل ولوحات جنائزية
وأوضح د. نور الدين إلى أنه من أشهر معروضات التراث اليمني العريق من التماثيل تمثال من البرونز الخالص، وهو تمثال جيد الصنع، أجاد المثّال الماهر في تشكيله، ويخص هذا التمثال شخصية مرموقة من عهد حضارة "سبأ" وهو "معدي يكرب"، وقد نقش المثال على صدر التمثال نقشا يحمل اسم صاحبه، ويغطي ظهره جلد أسد، ويؤرخ له في الغالب بعام 500 ق. م.
ويضم القسم نفسه مجموعة أخرى من التماثيل البرونزية الجميلة. ومن بين هذه التماثيل تمثال لامرأة تلبس ثوبا طويلا وتمسك هذه المرأة ـ التي صورها التمثال جيدا ـ قطعة من البخور في اليد اليمني، ومسرجة تقدمها للإله في اليد اليسرى.
وما أروع تمثال الطفل الذي يبدو باشا ومبتسما، وقد مثله أو جسده النحات الماهر عاريا تماما. ومن بين التماثيل تلك التي نحتها المثال من الحجر، ويغلب عليها أن تكون من حجر الألبستر الجميل الصلب. وهناك تمثال لامرأة ترفع يدها اليمنى في وضع ينبئ بأنها تصلي، وتحمل في يدها اليسرى سنبلة قمح، ويجسد هذا التمثال النذري أبعاد التدين، ومبلغ التشبث بالعقيدة على الصعيد اليمني دائما ومنذ وقت بعيد.
وهناك أيضا مجموعة كبيرة من التماثيل النذرية التي كانت توضع في المعابد للذكرى، أو التي كانت تقدم قربانا للآلهة، وأضف إلى ذلك مجموعة رائعة وجميلة من التماثيل البدائية الآدمية والحيوانية الصغيرة، وربما كانت تستخدم في أغراض السحر وطقوسه في الماضي البعيد وفي إطار التعبد، وهي في معظمها مصنوعة من الفخار، وقد ترجع في الأغلب إلى تراث الإنسان في العصر الحجري الحديث.
وفي قسم عرض الآثار اليمنية القديمة تنتشر اللوحات الجنائزية من الألبستر الجيد، وهي منبسطة الشكل، وعليها رأس ثور فحل، ولقد نفذ واصطنع هذه اللوحة النحات الماهر بكل دقة وإتقان إلى الحد الذي يلفت الانتباه.
وكم هي جميلة تلك اللوحة التي نقشت عليها صورة امرأة تحمل في يدها اليمنى وردة وكنها تتجمل. وهناك لوحة أخرى أكثر جمالا تصور كرمة يجلس تحتها وفي ظلها الظليل موسيقيان، تصور أحدهما وهو يعزف على القيثارة، وتصور الآخر وهو يهز إحدى الآلات الإيقاعية التي تحدث صوتا.
وتحوي واحدة من هذه اللوحات نقشين يلفتان النظر؛ يمثل النقش الأول رجلا يركب الجمل وبيده اليمنى حربة، وهي وسيلة الحرب والقتال، ويصور النقش الثاني رجلا يجر أو يسحب في يده اليمنى كلبين، وهي وسيلة صيد وقنص.
ومن أجمل النقوش على الإطلاق ذلك النقش الذي يصور حيوانا خرافيا، يبدو نصفه على شكل حصان، ويبدو نصفه الآخر على شكل حيوان بحري. ويجسد هذا النقش ترجمة أمينة للخيال الأسطوري، وكيف يبتدعه الخيال الخصب ثم يتعمد تجسيده.
ومن أهم اللوحات الحجرية بالمتحف لوحة من الألبستر، نقش عليها نسر يصارع ثعبانين أو ثعبانا برأسين؛ وربما يرمز ذلك إلى الصراع التقليدي بين الخير والشر. ونقش على لوحة أخرى نسر ينشر جناحيه، وتعلوهما نجمتان، وأسفلهما وردتان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق