وكالة أرصفة للأنباء_ منتديات ثقافية
______________________________&
ولدت سلمى الخضراء الجيوسي في شرقي الأردن لأب فلسطيني وأم لبنانية وكان والدها محامياً لامعاً ومن أشد المناضلين ضد الانتداب الانكليزي على فلسطين ومن أجرأ المطالبين باستعادة حقوق الشعب الفلسطيني المهضومة، وكانت أمها قارئة تهوى الأدب وهي التي حببت ابنتها به منذ عهد الطفولة واليفاعة فكتبت سلمى الشعر في مطلع صباها لكن أباها لم يرض عن هذا المنحى المبكر والهواية المتعبة لفلذة كبده فأراد صرفها عنهما، وعلى الرغم من حبه للشعر لم تكن المشاعر الرومانسية والعواطف المرهفة تروق له في قصائد ابنته فراح يستحثها على إتقان اللغة وتجويد الأسلوب بالانكباب على القراءة والمطالعة وأوصاها أن تتريث قبل الشروع بنشر أشعارها إذا أصرت على أن تصبح شاعرة.
في بيروت دخلت سلمى الجامعة الأميركية لتتخرج منها حاملة الماجستير في الأدبين العربي والانكليزي ثم انتقلت إلى جامعة لندن وهناك حصلت على الدكتوراه في الأدب العربي فكانت إحدى أوائل النساء العربيات اللواتي ينلن هذه الشهادة العليا من كلية راقية مشهود لها وبذلك ظهرت هذه الشابة كامرأة مرصودة على المستقبل.
ويمكن القول إن مسيرة حياتها كانت ومازالت وقفاً على التنقل: في انكلترا حيث الدراسة والبدايات الأدبية الجادة..
في إسبانيا حيث العمل والسفر والتدريس والانشغاف بالآثار العربية الأندلسية..
في العراق حيث الإقامة لبضع سنوات ونظم الشعر والاجتماع بأدباء عراقيين وعقد صلات وصداقات معهم..
في الولايات المتحدة الأميركية حيث تعيش الآن وتعمل على ترجمة الأدب العربي إلى الانكليزية مع فريق عمل عربي أجنبي يهتم بإصدار أنطلوجيا الأدب الفلسطيني ومختارات من الفنون الأدبية العربية شعرا ورواية ومسرحية وقصة مع مقدمات تعريفية كافية عنها وعن أصحابها ودراسات نقدية وافية بها وبأعلامها تشكل بمجملها مرجعا توثيقياً للمهتمين والباحثين.
قصيدتها الأولى التي طوبتها شاعرة مبشرة بامتياز أرسلتها عام 1954 من مدريد إلى بدوي الجبل الشاعر العربي السوري الكبير للاطلاع عليها وكان يومها وزيراً في الحكومة السورية آنذاك فحمل القصيدة بنفسه وكان في طريقه إلى بيروت وتوجه بها إلى صديقه سهيل ادريس رئيس تحرير مجلة الآداب وبدالة من الجبل على ادريس سحب الثاني نصاً كان منضداً في المطبعة لعدد الاداب الوشيك الظهور وطلب إلى عامل المطبعة تنضيد قصيدة سلمى وإنزالها مكان النص المسحوب وكان عنوانها (أنا والراهب) وفي كانون الثاني من عام 1960 صدرت مجموعتها الشعرية الأولى عن دار الآداب تحت اسم (العودة من النبع الحالم) وتشتمل على ثماني وعشرين قصيدة قدمت لها الشاعرة بالمقطوعة المؤثرة التالية مهداة إلى روح أمها الراحلة:
وأهدى إلي صديق يراعاً
فرحتُ به وهتفت لنفسي
سأكتب أول شيء به
لأمي رسالة أُنسِ
وأودع شوق الملحّ وحبيَ فيها
نسيت لوهلةْ
لطرفة مقلهْ
نسيتُ بأنكِ تحتَ الترابِ
ولن تقرئيها
-2-
وتضم المجموعة شعراً ذاتياً يندى بلهفة الوجدان وسماحة الحب وصدق المشاعر مثلما تتوهج القصائد بجرأة مباوحة المرأة في داخلها بميلها الفطري إلى الرجل المبتغى حبيباً وشريك حياة ورفيق درب وإظهار الافتتان بسجاياه النبيلة والتغزل بشمائله الأصيلة والانجذاب إلى صفاته الإنسانية وبثه شوقا دفيناً على حياء وحزناً رهيفاً على جلاء ويتمثل هذا الوتر في عدد من قصائد هذه المجموعة وخاصة تلك التي تفصح بوعد مكتوم لعطاء مأمول من ذات الشاعرة إلى محب واقعي أو متخيل وحلم بسعادة الهوى المنتظر واللهفة إلى اكتشاف المجهول والسير بخطا محسوبة حذرة على الطريق المؤدي إلى الضفاف الخضراء الآمنة.
بينما عزفت نصوصه الشعرية الأخرى على وتر ثان هو الإفصاح عن مكنونات نفسية الشاعرة بما تشتمل عليه من ظمأ إلى روحانية الشرق وحنين إلى الطفولة واحتفاء بالمثل العلياً وصبوة إلى المجد العربي القديم وترنم بذكريات حضارته الباسقة في المشرق العربي وفي ربوع الأندلس وغربة الإنسان وضياعه في حمى العصر العالمي الجديد بمخترعاته المدهشة ونزوعه العلمي وغلبة الجانب المادي العقلي في حياة المجتمعات الغربية على الجوانب الأخرى مهما كانت أهميتها المعنوية بالغة.
أما الوتر الثالث في المجموعة فهو وتر لهيب الفداء وشعلة البطولة والحرية ودماء الأضاحي والمقاومة معطراً برونق الفكر وعمق الشعور وحرارة الضمير القومي وحماسته مع احتفاء واضح بموسيقا الشعر وأعاريضه وقوافيه وأسلوبه اللغوي المنسوج بمتانة وشفافية معا وإيقاعة التعبيري الهامس المؤثر وجرسه اللفظي الدافئ وتكراره الموظف الواعي لكلمة الورد تنثرها الشاعرة إلى القادمين للحياة والراحلين عنها في مناسبات الفرح والحزن وبروز الطيب الفواح في انتقائها لمفرداتها ذات الخاصية الإيحائية في دلالات معانيها وأبعادها الرمزية وحضور اللونين الأحمر والأبيض حضوراً طافحاً في بنية قصائدها إفصاحاً عن ثورة الدم وأريحية الشهيد ونقاء سريرته ونبل كرمه وسخاء عطائه وخلود اسمه ممجداً في الدنيا والآخرة.
جادت بعض نصوص العودة من النبع الحالم على شكل الشعر العمودي المطور والمزين باستخراجات أو خرجات الموشحات الأندلسية المعدلة والمجددة وبعضها الآخر اتخذ شكل نظام التفعيلة المنضبط بضوابط الفن المحكمة وأدواته المستخلصة من ثقافة الشاعرة بنوعيها العربية والأوروبية ومن دراستها الأكاديمية المعمقة للقصيد والقريض قديمه وحديثه ومن طبعها كمبدعة تؤثر في قلائدها وفرائدها التنقيح والتحكيك وتزري بالمهلهل الركيك ومن حصيلة هذه التفاعلات والتأثيرات وغيرها من العوامل والمصادر استوت سلمى شاعرة مرموقة في نسجها وفيضها الشعوري وناقدة رقيبة ومتشددة على إنتاجها الفني تتعامل معه بعفوية وتلقائية كما قد يبدو لقارئه العادي أو يخيل إليه في الظاهر ولكنه في الحقيقة والمعرفة والواقع مشغول بحرفية ماهرة وصنعة خفية في الباطن لا يدركها إلا الخبير بأدوات الشعر وآلاته وتجعل الدارس يصنفه في مصنف السهل الممتنع أو لما يطلق عليه في المصطلح النقدي الجديد عبارة: خصوصية التجربة وتميزها
-3-
لقد صرف النقد الأدبي ومشاغله والترجمة من وإلى ومتاعبها سلمى الخضراء الجيوسي عن عالم الشعر وفضاءاته المترعة بلذة الخلق وصبوة الروح فالعودة من النبع الحالم هي مجموعتها الشعرية الأولى والأخيرة فيما أعلم وإذا كانت حركة الشعر العربي الحديث قد خسرتها شاعرة كان من المتوقع أن تظهر فعاليتها بصورة أعمق تأثيراً وإنتاجاً فيما لو استمرت في هذا الميدان وحده تعطي عبره وتثمر من خلاله عطاء وثمراً لقلم نسائي مرتبط بالتراث ومنفتح على الحداثة إلا أنها ربحتها مترجمة ناضجة خدمت بترجماتها الأدب العربي وآداب الأمم الأخرى الناطقة بالانكليزية وأستاذة جامعية من الطراز الحضاري المشغوف بالمجتمع المدني الحديث المشرع على رحابة إنسانية دافئة ومغمورة بالتعاطف الروحي والتفاعل الثقافي وناقدة بارعة في حقلين مهمين من حقول الدراسات النقدية أعني بهما الشعر والرواية.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق