اخر الاخبار

"نزوح حالمة""3"




قصة... ناجي ناجي
_______________&


تجاوزت السيارة النقطة الامنية في الحوبان، ثم انعطفت يمينا باتجاه عدن، فتحت الفتاة عيناها منبهرة برحلتها وانتقالها إلى عدن  وهي التي لم تخرج سابقا عن حدود باب موسى وباب الكبير، لكنها لم تصمد كثيرا مع اهتزازات السيارة التي يتصاعد منها رائحة احتراق ممزوجة بالتراب الخانق، حين تنبسط الطريق، تخلف السيارة سحابة من الغبار، وفي الالتوائات ، تبطئ، وفي كلا الحالتين لاتكف عن الارتجاج، كان خالها بجوارها يسندها عليه،  اخرج  غطرة، لف بها راسها، ولثم بها وجهها ليقيها الغبار، خالها طاهر، ايضا ملثم، حتى السائق،  البقية  في الخلف ، في الحوض المكشوف، جميعهم ملثمين، يتعاظم الغبار حين تسبقهم سيارة اخري، ويتعاظم أكثر حين تمر شاحنة في الاتجاه المعاكس، صورة عمها وعمتها لاتغيب من امامها، وتزداد وضوحا حين تغمض عينيها، خلّفتهم في تعز، وذهبت مع خالها طاهر قاسم، ومعرفتها به حديثة، ومعرفتها بالجار / العم فاظل وعمتها نورية متأصلة تفوق خمس سنوات أو اكثر، هي عمر المجورة في النسيرية، كانا ملاذها في اصعب الاوقات وهي لاتطمع بان تكون حياتها في بيت خالها افضل من حياتها في بيت عمها الجار، لكنها كانت على يقين بانها ذاهبة إلى حكومة ترعى فيها الفقير واليتيم، تطلعاتها في القادم أكبر واقوي من مأساة ماضيها، كان خالها ظمن النازحين إلى عدن في فترة الخمسينيات وماقبلها هرباً من الجوع والجهل والمرض، عناوين حكم الائم، يعملون بهمة على افقار الناس وجعلهم يعيشون في زرائب حيوانية، وبتسلط ليس له مثيل الا في الكوابيس، وبعد الثورة نزح الجميع من مختلف المحافظات الشمالية والجنوبية إلى صنعاء لتخليصها من بؤرتها المظلمة، بما عُرف بكتائب الحرس الوطني، ثم عادوا إلى عدن مشاركين في تفجير ثورة 14 اكتوبر، وفي حصار السبعين عادوا إلى صنعاء للحفاظ على جمهوريتها، لكنها ابت، وقبل نهاية الستينيات، عاد النزوح إلى عدن، نزوحات متعددة الاتجاهات بحثا عن ارض خصبة تنتج حياة جديدة، حياة كريمة وعادلة .
         ***
توقفت السيارة  في منطقة قيل لها انها الراهدة، هبط خالها ورفاقه وهبطت خلفهم، راحوا يرشون انفسهم بالماء، علها تخفض حرارة الجو، وتزيل التراب العالق، ويشربون منه جرعات متتالية، حتى السياره، راح السائق يفتع غطاء مكينتها ويصب الماء في خزانها، فيتصاعد منها البخار، ويخرج من فوهة الخزان فقاعات ماء يغلي، عرّفها خالها بالبقية  (مثنى، وناصر، فاروق، )، كانوا  في كتائب المقاومة الشعبة في صنعاء، وبعد سحق الحصار تم تصفية بعض قادتها وملاحقة الاخرين .
           ***
  واصلت السيارة رحلتها ، خَفَّ الغبار قليلا، وازداد ارتجاج السيارة وارتفعت زمجرتها، احستْ بدوار رأسها فغفت، نامت وهي تسمع زمجرة السيارة وتسمع آحاديث خالها والسائق، تأتيها من بعيد، كأنها ليست في مرقدها في بيت عمها.. مكان غريب وغير مريح، تفيق.. الطريق لازال طويلا، تغمض عينيها هربا من مغص بطنها، تُألمها ركبتيها، تود أن تمدهما، احس بها خالها، اصلح جلستها وازاح بعض الاشياء من تحت قدميها، مدت رجليها، يزداد الجو سخونة كلما اتجهوا جنوبا، غفت مرة اخرى في كوابيس تلك الليلة المشؤمة، افاقت وقد توقفت السيارة في نقطة عسكرية، قال لها خالها هذه نقطة الشريجة وبعدها بفترة صغيرة توقفوا امام نقطة اخري، لاحظت اختلاف الزي العسكري فعلمت انها نقطة كرش، تجاوزوا النقطة  ثم توقفت السياره امام مقهى، ابتاع  الخبز وعلب التونة وجمنة قهوة، كانت راغبة في ارواء عطشها، لكنها خائفة من الغثيان، شربت جرعة ماء صغيرة واكلت قليلا من الخبز مع القهوة، وامتنعت عن التونة، تحركت السياره، اسندها خالها عليه فنامت، رأت نفسها تحت اشجار نخل باسقة، وشربة ماء باردة، روت عطشها منها وصبت الباقي على راسها، فانزاح على ظهرها وصدرها باردة منعشة للروح والجسد، وامامها حبات رمل ناعمة، وبحر شديد الزرقة ، وامواج تناديها، تتبسم لها وتناديها، فتشجعت وتقدمت بخطوات حذرة، غمرت ساقيها، تلطم الموجة جسدها، مثيرة فيها نشوة لم تعهدها من قبل، راحت تسبح وتسبح وتغوص وتتسابق مع مخلوقات اليفة، افاقت على صوت غربان البحر، وتلاطم الأمواج، مدت عنقها فرات البحر على يمينها وعلى يسارها،  والشمس في غروبها ترسل اشعة ذهبية، ورات امامها مدينة كأنها جنة عدْنٍ، انعكست عليها اشعة الشمس فبدت كأن جدرانها قد طليت بماء الذهب، التفتت إلى خالها، فقال لها:
- لقد وصلنا.. هذا هو الجسر.. وتلك هي المعلا ..
بعدها التواهي حيث مسكننا .. وفي الخلف.. مدينة كريتر .
اطمئنت، بوصولها سترتاح من ضجيج السيارة، رأت فتيات يسرحن فوق الجسر بملابس غير ملابسها، لوت عنقها لتتابعهن .
     ***
توقفت السيارة، نزل خالها وولج محل بيع الملابس، وابتاع لها بدلتين، شعرت بالخجل من كلفة نفقتهاعلى خالها، قال لها: - هذا شارع المعلا .
تحركت السيارة في الخط المستقيم، ثم التوت في منعطفات ذات اليمين وذات اليسار، في مكان ما نزل مثنى، وفي مكان اخر نزل فارق، ثم توقفت امام منازل بطوابق ثلاث، اشار لها إلى احدها قائلا: - شقتنا في هذه العمارة....
يتبع الحلقة الرابعة...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

وكالة أرصفة للأنباءجميع الحقوق محفوظة 2016