اخر الاخبار

عيد عاري... بدونك يا سيدة قريتنا الكبيرة..!





محمد دبوان المياحي
 _____________
 


 عيد عاري ، بدونك يا سيدة قريتنا الكبيرة..!
وماتت جدتك يا ولدي هذا اليوم !



أصدر الله تعاليمه لرسول الموت ، كلفه ان يأتي بروح / جدتي قبيل عيد الفطر بيومين . هذا العيد اعلن الله اعادتك اليه يا أماه ، حسم امرك وقال لن يعود العيد عليكم وجدتكم معكم ، ووردتكم في بستانكم، سأقطف من حديقتكم زهرتكم الكبيرة ، سأخطف عبيركم الأكثر حلاوة، قال الله كل هذا واخذك من بيبنا ، وقبض ملك الموت روحك قبيل فجر الثامن والعشرون من رمضان. ...

غادرت جدتي هذا الوجود، رحلت لأبعد نقطة في الكون ، اغتربت عنا في زمن كله غربة، لأول مرة في العمر تغتربين يا أماه ، مسافرة الى أين يا هامة اجسادنا الأولى ، كيف ترحلين و تتركتينا بعدك قاحلين ، بذور مكشوفة في صحراء لاهبة ، أغصان ضامرة ملقاة على الرصيف ، فقدناك يا بستان أسرتنا الكبير، وجع يفتتنا الان ، مذبوحين في الأعماق، شعور ذابح بالأسى يلتهم ابنائك واحفادك ، نغالب خبر رحيلك ننهر اليقين ونصادق الشك ، نرفض الاعتراف بالفاجعة، نأبى أن يهزمنا الموت في عمقنا الوجودي ، فيك يا سيدة القرية الجليلة ، يسأل طفلك الصغير ، كيف يجرؤ الموت أن يقضم رأسي ويرحل ويتركني شاردا في الحياة دونما غطاء من نور الاباء؟

 
رحلت جدتى عن الوجود، غادرت القرية محمولة على الأكتاف، ودعت الجبل المقابل لبيتها، ألقت سلامها الأخير على الشجرة التي تقف على رأس التل المجاور لمنزلها ، قبلت المواشي بعيون مغمضة ، تركت ابريق الماء الذي يرافقها في صلاة الفجر ورحلت ، احذيتها الصغيرة الناعمة ستظل وحيدة هذا الصباح . أيها الموت ما أقسى عضتك ، ما اعنفك من زائر ، وما أوحش مهنتك ، كم انت شرير وغليظ وحاد و جلف؟ كيف أخذت جدتنا وتركتنا نتلوى في هذا الليل دونما ضوء، دونما شعرها القصير في فناء منزلنا الصغير؟


داهمنا هذا النبأ ونحن في غمرة مشاغل الحياة. يا أمنا المسافرة الى الله، سقط جميع أبناءك الى التراب ، هوينا منتحبين لهذا النبأ القادم من السماء، أنت تعرفين بفطرتك يا اماه ان ليس ممكن لنا الاعتراض على ارادة خالقنا، ليس من حق الأحفاد مطالبة الله بالعدول عن ناموسه الكوني، وابقاء جدتهم معهم ليتنالوا حلوى العيد معها ، ماذا بوسعنا ان نفعل حين قرر الله استعادتك الى دارك الأول؟ صعقنا ومازلنا مذهولين ، اثنينا على الله لكننا لم نخف علىه نزيف قلوبنا بعدك، ومرارة العيش في قرية لن تقبل اقدامك بعد اليوم كما كانت تفعل ذلك كل نهار ...

تائهون، بعدك أيا ينبوعة سلالتنا العذبة، من يسقينا اذا جفت ديارنا بعد هذا اليوم، من يمنحنا حنانا ثريا بعدك يا قلعة بيتنا المجيد ؟ من يشبع جوعنا الى حديثك في مساءات هذا العيد ؟ من في طريق الصلاة سألقى صباح العيد؟

ولدت جدتي في العقد الرابع من القرن العشرين أسماها أبوها "ورد "كان يمارس نبوة من نوع خاص حين اختار اسم الورد لابنته الجديدة، اذ ان الوردة هذه قد تفتقت لتكسي قرية "المجد" بكساء من البشر بعد ان كانت عش الوادي مهجورا تسكنه طيور الليل ، تزوجت بجدي وما زالت صبية قاصرة لم تبلغ العشرين من عمرها ، وفي مطلع الستينات من القرن نفسه كانت جدتي تبدي استعداها لتخصيب الحياة ، وحدث ان احتشدت بكل عذريتها وأنجبت فتى مشاغبا ، صار يوما ما " أبا لي " وها هو الليلة ينام باكيا دون أم، يتيم يعزم نيته للصوم دونما طعام ، يحاصره جسده من الأكل ، تمنعه نفسه عن كل شيء، فاقدا شهية الحياة دون رائحة قميص أمه في الدار...

رحلت جدتي وكانت تحرس الوادي بضحكتها، كانت تسهر حتى تنام القرية كلها ، وعند السحر كانت توقظ سكان القرية ؛ لاعداد طعام السحور، عجوز هي بروح جسور، ماتت وسقط عقد القرية، رحلت وتركت كل اشياؤها هنا .

قميصك الازرق يا أمي ذكرى خالدة في قلوب الجميع ، خروجك في البكور الى الحقول، عودتك في المساء ، سقيانك الأغنام عند البئر في ريعان شبابك ، مواويلك في ضحى الربيع ، صلواتك في الظهيرة تحت الأشجار، يوم كنت مزارعة لا وقت لعودتك الى الدار ، تحت كل شجرة ينتصب ظلك ، ومن كل صخرة تفوح رائحة يديك، طيور الصباح هي الأخرى عاشت معك لحظات البكور كل يوم ، ومن خشخشة ماء وضوءك كانت تشرب طيور القرية كل صباح ، آيه يا عصفورتنا المحلقة في فضاءات الأخرة، فكل شيء هنا في القرية سيظل مصبوغا بك حتى الأبد ويوم...

سلام لروحك الطاهرة المحلقة في ضفاف الجنة ..
سلام لجسد الأنيق، الساكن في قبره
سلام لك أيتها الناسكة في محراب الحياة..
سلام لك يا راحلة نحتها القدر بعناية..
سلام لك يا راعية خلدتها الزروع والثمار..

عزاء لنا برحيلك يا حصن قريتنا المنيع !

حفيدك /محمد المياحي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

وكالة أرصفة للأنباءجميع الحقوق محفوظة 2016