اخر الاخبار

مدينة الحلم الجميل




   حامد السقاف
__________&

   الإهداء : إلى صديقي صاحب شهقة الفجر، عبدالرحمن بجاش، العاشق الأكبر لتعز 

     خمسون عاما عشت في تعز، جئتها صبيا، يافعا، ممتطيا خيالي المجنح لاقتحام حلمي الصغير. كنت في السادسة عشرة من عمري تقريبا، وهو العمر الذي يؤهلك أن ترى العالم ملكك، ولا يتسع الكون إلا لخطواتك الصغيرة والكبيرة معا.

      خمسون ربيعا وأنا امتهن العشق والحب، تشكلني الفصول حسب دوراتها، وتتقادم بي سنوات العمر، دون أن أفقد ذلك الوهج القديم، تلك الومضة التي سكنتني منذ البدايات.. ولم تغادرني.

      كانت المدينة في العام ١٩٦٧م أشبه بالبلدات الكبيرة، والمدن الصغيرة، الواسعة نسبيا، والتي لا تشبه القرى، ولا تأخذ طابع المدن الكبيرة جدا.

كان حدها ما بين باب موسى والجحملية، ومن سور الباب الكبير إلى مدرسة أروى، قبل أن تتشكل المجلية. كانت صالة وثعبات أشبه بالمنتزهات، لمن يرغب الترويح عن نفسه، تماماً كما كانت مزارع عصيفرة في الجانب الآخر من المدينة.

شارعان يعشقان المدينة منذ تكوينهما، شارع جمال، شارع سبتمبر.

تلك حدودي التي كنت أتحرك فيها، حال قدومي للمدينة كطالب في ثانوية تعز، شارع المصلى. لن أستطيع مجاراة بجاش الصحافي - الكاتب، في تمييز كائنات المدينة وناسها، ونبش الوجوه والأمكنة. تلك القدرة الفذة، والذاكرة المتوقدة، سأتركها للخبّاز القديم، صاحب المخبز- الفرن، أو ( الفرم) كما كان البعض ينطقها، تيمنا بالقول السائد:
دع الخبز للخبّاز. دع الفرن للفرّان

         كان المطر مختلفا، يهمي في الساعات التي تأخذ فيها المدينة قيلولتها، يغسل الحجارة والشوارع والمنازل، وحين ينزاح المطر، تجلو المدينة كعروس زاهية، براقة، منتشية. كانت السيول المتدافعة من الجبال المحيطة، تشكل تهديدا ومخاطر لمن يقفون في طريقها، ولطالما تم تقديم القربان للسيل الجارف دون إنذار أو نذور، لا كما كان يفعل قدامى الفراعنة في تجهيز عروس النيل.

حتى الناس كانوا أكثر تسامحا، أقرب للبراءة وسمو النفس. وكان جبل الخير والشموخ، يبعث صباياه الجميلات، المشقرات بالغمام، كما كان يقول عاطر الذكر، الشاعر الفتيح، يهبطن المدينة، مسربلات بالخوخ (الفرسك) والرمان، والتين والزيتون، مرتديات تلك الأثواب المزركشة، المفرحة الألوان، الشبيهة بخصوبة جبل صبر الشامخ، مزينات بالثياب الدمس، كما قال الفضول، مرصعات بالذهب والفضة، والوجوه المنيرة كالقمر الذي يطل من قمة جبل صبر، حيث وحدة  الجمال والفتنة والروعة في تشكيلات نساء الجبل القمري.

كان الناس يتقبلون هذا الكرنفال اليومي، دون تذمر أو تشكيك في أخلاقيات الزائرات الجبليات، لم تكن الأفكار الظلامية قد مسّت الأذهان، وكان العقل أكثر اتساعا في منطقيته وتفكيره، دون الهبوط لمستوى الغريزة المتدنية، ونظرته للمرأة العاملة، وللحياة برمتها. وهذا ما جعل الشعراء والأدباء يتغزلون بما يشاهدونه من مهرجانات الفرح الباذخ، لينعكس في كتاباتهم ونتاجاتهم الإبداعية:
الفضول - منصور - محمد عبدالولي - الفتيح - هاشم علي...

       خمسون عاما وأنا أبتعد وأقترب من تعز، أنأى وأعود، شممت ياسمينها، خضّبت عينيّ بأشجارها وجهنمياتها القوس قزحية، واكبت أفراحها وأتراحها، عشت تغيراتها، لمست مخاضاتها، تسكعت في شوارعها وأزقاتها، في المدينة القديمة حيث المظفر - وادي المدام، ابتسمت لفاتناتها، حين كنّ يرتدين الشرشف التعزيّ، قبل غزو الموضات، ترددت على مكتباتها قبل أن تتحول إلى قرطاسيات. حفظت زفات منى علي:
دار أبوك معمور بياجور
والحمام فوقه تدور .... يا عروس.

       نصف قرن وأنا مسكون بالمدينة، وهي تسكنني، كيف يمكنني الآن أن انتزع جسدي ؟ 

لم تعد تعز تلك التي أعرفها، تلك التي أدمنتها حين كانت أكثر هدوءاً وجمالا، تحمل طابعها المديني، تقرأ أكثر، تتقن فن الحياة.

   ما الذي حدث، كيف صارت محرقة ؟ تتداخل القذائف بالرعود، تلمع الصواريخ كالبرق، يحوم الموت فوق مآذنها ومنازلها، والقتل المجاني يأخذ لون الدم، وصرخات الآرامل، وحزن الثكالى!

دثريني، زمليني، ضميني حرية  تغسل أتعابك، تكفكف دمعك، تمسح الحزن عن مقلتيك، كي أدفع قليلا من ضريبة عشقي وحبي، كي أخفف من همّك الأزلي الذي يحاول فرضه الطغاة والبغاة.

       لن أبكي مدينتي، وليست هذه مرثيتي... فالمدن لا تموت، وستبقى تعز ذلك الحلم الجميل الذي تشرنق في داخلي مذ جئتها صبيا، ورسمت ملامحها كالفراشة الزاهية . 

    
تعز - حزيران ٢٠١٧ م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

وكالة أرصفة للأنباءجميع الحقوق محفوظة 2016