اخر الاخبار

كاتيوشا.. واليتيمة"2"

 


قصة قصيرة_ ناجي ناجي




عاشت الجمهورية..
تسقط الجمهورية الملكية ..
تسقط الملكية

ظل عبد الكريم في مكانه، وعلى وجهه ابتسامة، ليست إبتسامة الرضا ولا الحسد، بل كانت ابتسامة اثبات صحة ما يردده  دائما.. بأن الخراب قد حل على ايدي الرعاع، وما يراه الأن إلا بادرة من بوادر الغوغائية للخراب القادم، حتى الرائد الذي كان يمر من وسط الميدان، بمقطبه وجفله وقميصه المعقود أكمامه في ظهره، انعطف غربا للسلام، باسما ومهنئا، مما زاد من اشمئزاز  عبدالكريم، وبدء حنقه واضحا على محياه.. كأنه يقول في نفسه.. حتى أنت يا عم محمد!!.. وراح يظرب كفا بكف.

سلم الرائد على القادمين، واقبل باتجاه عبدالكريم، رمى رديفه إلى جواره وجلس عليه، فقال عبدالكريم، وبدون أن يلتفت إليه: - خَفْ عقلك!!
- بل سعيد بما يسعد الناس 
- وإن....
- وإن كانوا.. لن افقد عقلي ونفسي في سبيل بيت حميد الدين.. لقد ذهبوا غير مأسوف عليهم.. بيت حميد الدين الذين ظلموا الأسرة الهاشمية.. أكثر من غيرهم.. وتنكروا لنا.. نحن المشيخ الذين أوصلناهم إلى سدة الحكم.. فلما الآسف عليهم!!
- لست اسفا عليهم.. بل على مستقبل البلاد.. وقد صار الأمر بيد الرعاع.
- تعقل يا عبدالكريم..إن احسنا التصرف.. وهو ما يقوم به الأحمر في صنعاء.. فلن ياتي ذلك اليوم.. انظر كيف كان هؤلا في 64م؟، وما كانوا يرفعونه من مطالب، اتفق السلال والاحمر والعمري، فجاء الأحمر ووقع عليها وقبلها السلال  وترك أمرها للعمري الذي رفضها وهدد باقتحام تعز كما اقتحمها الوزير سابقاً، ثم إلتف الأحمر عليها إلتفاف الاسد، فجعلهم في عنق الزجاجة.. اليوم ثلثين الموقعين على تلك المطالب، صاروا حلفاء الأحمر والعمري، والأن قم وأذهب وسلم على الناس.

قام عبدالكريم متثاقلا وسلم على  الجميع، وعاد إلى مكانه، خرج من حلقة السلام ابراهيم عبدالله (الأخ الصغير لعبدالكريم عبدالله) باسما،  يمضي باتجاه اخيه والعم محمد، وحين صار على مقربة منهما قال: 
- اقسم بالله إنني اعرف  فيما تتحدثان..
عبدالكريم يريدها ملكية لامام العكفة، وعمنا الرائد.. يريدها جمهورية لشيخ العكفة. 
فرد عليه الرائد: اعقل  يابراهيم.. أنت ابن ناس.. ولا تدع الموجة تأخذك في دوختك هذه، على الاقل اجعل أخيك عبدالكريم قدوتك.

- صحيح إنهم(مشيرا إلى من في الميدان) غنم بلا راعي، لكنهم لن يناموا مره اخرى، ولن يقبلوا أن يستبدل ظالم باخر، سيتعبون كثيرا وسنتعب أكثر، وفي نهاية المطاف لابد من مظلة للجميع تحفظ حقوق الجميع.

- الافكار الهدامة قد لحست عقلك.. خاطرك يا عبدالكريم، وكان الله في عونك، وقبل أن يمضي، إلتفت إلى عبدالكريم  قائلا: غدا ساشتري القات ونخزن معا عندي أو عندك، ثم استدك قائلا: عندك احسن.
           ***

ترك ابراهيم اخاه، واتجه إلى زكريا غالب، يجمع بينهما الشقاوة العذبة والبشاشة، والاثنان في المرحلة الثانوية، تناولا الشاي والكدم ثم لحقا بحلقة السلام والترحاب بالقادمين، كان الثلاثة القادمين وابراهيم وزكريا، مجموعة واحدة في الطفولة، وفي الحارة والمدرسة.
             ***

عند الساعة التاسعة من صباح اليوم الثاني- الجمعة- إلتقى الأصحاب الخمسة، ساروا كما كانوا من قبل، يتناقشون تارة ويتضاحكون اخرى، مع تعديل طفيف، فقد ظل القادمين بالجدية الصارمة، وبقى الاثنان على حالهما بين الجدية  والدعابة، خرجوا من باب الكبير باتجاه مقهاية الابي في شارع 26 سبتمبر، وهناك مجموعة من زملاء الثانوية، كعادتهم في نقاش محتدم حول الاممية والاشتراكية والقومية والوحدة العربية، ما أن تقابلت الوجوه، حتى تعانقوا واستفسروا عن الأحوال.. ومتى جئتم؟، ثم عاد النقاش حول المسائل السابقة،  افترق الخمسة في الأفكار المطروحة، ظل زكريا غالب صامتا، ثم مال إلى ابراهيم قائلابصوت خفيف: هنا ثلاث جمهوريات، مستقلين، ماركسيين ، وبعثيين، عندنا في الميدان  جمهورية الشيخ.. وملكية الإمام.. مساكين أصحاب الميدان.
إلتفتوا إليه: ماذا تقصد!!!
- الأممية.. على عيني وراسي.. والقومية أصل.. على عيني وراسي.. والوحدة العربية مصير.. على عيني وراسي.. لكن كيف يمكن أن نساهم في أي منهم والوحدة لم تتحقق بين صنعاء وتعز والحديده.. من منكم يتذكر المطالب العشرة التي رفعت في 64م؟، لا.. لا.. خليكم في قضية فيتنام وفلسطين على عدالتهما.

لم يكن رايه جديدا عليهم، ومع ذلك، غضب منه الجميع، وكشروا عن انيابهم، فانقلب مداعبا كعادته، وعانق الجميع، وعاد الخمسة إلى داخل المدينة. 
            ***

كان الرائد فوق سيارة عسكرية يقترب من بيت عبدالكريم عبدالله، للمقيل بحسب وعد الأمس، لقد أكثر من تردده عليه، كان الأمر في بدايته طبيعيا، لكنه تطور إلى طور أخر، فقد رأى(عاتكة) أكثر من مرة، وسمع صوتها المتمائل بشيئ من الدلال، فترسخ في نفسه اعتقادا، أن الأرملة التي فارقها زرجها وهي في ريعان الشباب وأوجَّهُ، تبدو بطلعة بهية، وقامة رغدة، وعيون ذابلة مشتعلة، ووجه كأنه البدر في تمامه، وهي قد تجاوزت الأربعين ربيعا، ورغم ذلك لم تفقدها السنين عنفوانها، ولامست الأحزان لواعجها، وكان كلما مر من جوار دارها، يتسارع نبض قلبه وتشتعل عواطفه كعاشق عابر، لا يود المكوث، لكن المرأه، أدركت مقاصده من وهلته الأولى، فاسدلت اطمارها، وأحكمت أذيالها، راحت تسخر من الجميع، تارة في نفسها وتارة في العلن من الذين تنكروا لابنها، وتركوه مهملا في تعز، وجعلوه عرضة لامثال القبيلي الجلف المستهتر، والرعوي الغر الذي يتحرك كثيرا ويعمل أكثر، لكن بجمجمة خاوية بلاعقل.

طرق الباب، فاستقبله عبدالكريم، كان مقيلا هادئا، لكنه ثقيل، عبدالكريم في مكانه واجما، حزينا كعادته، والرائد بدأ بشوشا، اخذ قبضة قات ومدها لبعدالكريم قائلا: للولده
- الوالدة خرجت مع زهره.
تكدر الرائد وحاول تجاوزها أونسيانها، بدون جدوى، فوجم هو الاخر، وكسراً لهذا الوجوم، راح الرائد يقلب مؤشر المذياع من محطة إلى اخرى، وبعد العصر استأذن الرائد متحججا بعمله في القيادة، واتجه عبدالكريم إلى الميدان كعادته تحت شجرة الطولق، وعلى مقربة من منزل عبدالكريم، كان منزل حسن علي(والد الرائد حسان حسن)، نابضا بالحياة تجمع الزوار مع زملاء الحارة ومدرسة الثورة الثانوية في الديوان، كان نقاشاتهم وباصواتهم العالية تصل إلى الشارع، وكانت والدة حسان حسن تصب المياه في حافظات المياه لزوم المخزنين وتعد القهوة والشاى تغمرها السعادة، شاركهم حسن علي مقيلهم نصف ساعة ثم لحق ولده صادق إلى المحل في سوق الجمهورية، بدا حسن علي في الأربعين من عمره أو يزيد، طويل القامة ممتلئ الجسم وبشرة فاتحة ووجه بشوش، بفوطته الملفوفة باحكام وشميزه الأبيض وغطرته الملفوفة على رأسه.
             ***

في فجر السبت الباكر، تحركت سيارة البيجوت، عائدةً بالضباط إلى صنعاء، بعدها توقفت سيارة عسكرية، هبط منها العسكر يطلبون زكريا غالب.

افاقت الحارة على رحيل الزوار، واعتقال زكريا غالب، ذهب الأصدقاء للبحث عن المعتقل فلم يجدوه في أي حجز أو أي سجن معروف.
              ***

كان الرائد يمر من أمام بيت عبدالكريم، يطرق الباب فيسأل عن عبدالكريم، وهو يعلم أنه هناك في الميدان تحت الطولقة، وقد مر أسبوع على سجن زكريا، فكرت عاتكة اختبار الرائد ومدى هيمنتها عليه، فما أن سمعت طرق الباب، فجائه صوتها من خلف الباب: من ؟
- اين عبد الكريم 
- اسمع يا محمد، انت عارف معزتك عندنا، لكن إن لم يخرج زكريا من حبسه، فلا تعتب باب هذا المنزل.

سمع طرقات قدميها مبتعدة عن الباب وصاعدة السلم.

في اليوم الثاني تم الإفراج عن زكريا، استقبلته أسرته الصغيرة وأهل الحارة وزملاء المدرسة بفرحتة عارمة.

وفي اليوم الثالث مر الرائد كعادته بعد العصر، طرق الباب وسأل عن عبد الكريم، شكرته عاتكة على صنيعته، طار الرائد فرحا، وبدلا من الذهاب إلى الميدان، وجد نفسه هائما في شارع التحرير
             ***

تضاعفت حالة عدم الاستقرار عند عبدالكريم، الذي  بات ليلته مسهدا، باحثا عن حجر يقف  عليه، ثم ينطلق مع المنطلقون، ترك المدرسة معتمدا على ابناء العموم في الرياض، أو نيويوك، لياخذ مكانته بينهم، ومع ذلك، راح ينهل من علم الأولين، من مكتبة والده التي لا تزيد عن خمسة مجلدات في الفقه  والحديث ومروج الذهب وأولها  الكتاب المنزل.

ذهب إلى القيادة باحثا عن  الرائد محمد حسين، فقد غاب عنه في الفترة الأخيرة، وهو الوحيد الذى يستانس به.
          ***

انشغل الرائد محمد حسين في مكتبه في الفترة السابقة، بفعل الاحداث المتسارعه، فقدذهب الأحمر والعمري وبقية الفرقة إلى القاهرة، وبطلب من الرئيس السلال تم اعتقال الجميع، وعاد السلال إلى صنعاء وتم تعيين حكومة جديدة، تنذر  ببداية عهد جديد، تعيد للثورة والجمهورية عنفوانهما، والمضي في انجاز المشوار الطويل. 
            ***
ما يشغل بال محمد حسين، هي  وظيفته التي يجب ألا يفقدها، فان رحل الراحلون، بحسب تعبيره (فقد اخذوا حقهم وزياده، أما القبيلة، فستبقى القبيلة، وفي النهاية.. لا يصح إلا الصحيح)، فقرر الذهاب إلى صنعاء، قبل أن تتدهور الأوضاع إلى ما لا يحمد عقباه، وكان الشتاء لا يزال جاثما في  يناير 67م.
              ***

في مكتبه، في القيادة، استقبل عبد الكريم.
فسأله الرائد:
- ألم ياتك رد من نيويورك؟
- لا
- ولا من الرياض.؟
- لا
- اسمعني.. دعك  من أبناء عمومتك في نيويورك والرياض.. الملكية انتهت .. ماضي ولى ولن يعود.. انظر إلى أبناء عمومتك في صنعاء.. إنهم مع جمهورية  القبيلة.. نحن وهم مع جمهورية القبيلة.. الأصل والفصل..
بوجود الأحمر أو بدونه، بوجود السلال أو بدونه.. تفاصيل لشيئ واحد فقط.. القبيلة أولا.
-هذا ما توصلت إليه مؤخرا
- أما جمهوريات مدرسة الثورة الثانوية.. فدعهم يلوكون الكلام.. كما يحلو لهم.. فإنهم كغثاء السيل.
- صدقت.
- أنا عازم على الذهاب إلى صنعاء.. لاسبوع أو أسبوعين.. ما رأيك ترافقني.. فقد تجد هناك ما يرضيك.
- وماذا سيجدينا من صنعاء.. إنها حكومة جزيلان.. وجزيلان يساري 
- نحن ايصا يساريين.. نأخذ قاتنا  ونتغدى.. وعلى بركة الله إلى صنعاء اليوم.
- خير..... يتبع الحلقة الثالثة
نهاية Nagee Nagee 
نوفمبر 2015


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

وكالة أرصفة للأنباءجميع الحقوق محفوظة 2016