اخر الاخبار

من أجل فهم صحيح للقضية الجنوبية




▪طاهر شمسان
_________&

 
يقوم فهمنا للقضية الجنوبية على عدة حقائق رئيسة تؤسس ربما لعشرات الحقائق الفرعية. تقول الحقيقة الأولى إن القضية الجنوبية ليست جنوبيةً إلا من حيث الشكل أما من حيث المضمون فهي قضية يمنية بامتياز، ومن يسعى لترويجها في سياق مغاير لسياقها اليمني فإنه عمليا يروج لقضايا مشابهة في إطار الجنوب وربما في إطار الشمال، وسواء فعل ذلك عن علم أو عن جهل فإنه بالنتيجة يخدم مشاريع التفكيك والتجزئة في كل اليمن.
         وتقول الحقيقة الثانية إن الجنوب ليس جزءا من الشمال، لكنه، بحكم الجغرافيا والتاريخ، جزء من اليمن ، ولأنه ليس جزءا من الشمال فله كامل الحق في أن يفك ارتباطه – سلميا وديمقراطيا -  بالوحدة مع الشمال إذا رءآها وحدة  ظالمة لمواطنيه ورأى أن الشمال أو معظمه غير مؤهل لتصحيح مسارها عبر القبول بدولة لكل مواطنيها.أما أن ينبري من يستنجد ب"جنوب عربي" ليضع نفسه في مواجهة مباشرة مع الهوية اليمنية للجنوب فمصائر الشعوب والدول لا تقرر بهذه الطريقة ولا تقبل بأي مغامرة تستقوي بعوامل خارجية عابرة على حساب الحقائق الكبرى المتجذرة في جغرافيا وتاريخ الوطن.
         وتقول الحقيقة الثالثة إن ثورة 14 أكتوبر 1963 كانت ثورة تحرير الجنوب وتوحيده، وإنها من أجل التحرير أنهت الوجود الاستعماري، ومن أجل التوحيد أسقطت بالقوة مشروع الجنوب العربي الذي أراده الاستعمار البريطاني للجنوب، ووحدت 23 سلطنة ومشيخة وإمارة - إضافة إلى مستعمرة عدن – في دولة واحدة. وبناء على هذه الحقيقة فإن العودة إلى الجنوب العربي هي عودة إلى المشروع الاستعماري السلاطيني وإلى التفكيك في مواجهة التوحيد الذي تم في 30 نوفمبر 1967.
         وتقول الحقيقة الرابعة إن التنظيم الذي أنهى استعمار الجنوب وفاوضه على الاستقلال هو "الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل" وليس "الجبهة القومية لتحرير الجنوب العربي" وإن هذه الجبهة أسقطت كل سلطنة وكل مشيخة وكل إمارة بأيادي أبنائها، وإن هؤلاء الأبناء كانوا يعرفون جيدا الهوية اليمنية للتنظيم الذي ينتسبون إليه ويقاتلون تحت رايته ويعلمون أن هذا التنظيم يعمل على تحرير وتوحيد الجنوب في إطار استراتيجية وطنية لتوحيد كامل اليمن، ومن بين أبرز هؤلاء الأبناء كان سالمين وعلي عنتر وصالح مصلح ومحمد صالح مطيع وعلي صالح عباد وعلي ناصر محمد.
         وتقول الحقيقة الخامسة إن زعماء السلطنات والمشيخات والإمارات والمستوزرين في مستعمرة عدن غادروا الجنوب عشية الاستقلال وتواروا في المنافي دون أن يصدر عن أي منهم ما يشكك بالهوية اليمنية للجنوب أو يطعن في سلامة النهج الوحدوي للجبهة القومية، وإن دعاوى "الجنوب العربي" هي من تداعيات حرب صيف 1994 وليست أبدا من نتائج كفاح الجبهة القومية من أجل استقلال وتوحيد الجنوب.
         وتقول الحقيقة السادسة إن جوهر حرب صيف 1994 لم يكن خلافا حول الوحدة وإنما حول دولة الوحدة، ومن ثم لم تكن تلك الحرب بين جهتين في الجغرافيا وإنما بين اتجاهين في السياسة، والذين كسبوها واستفادوا من نتائجها هم من الشمال ومن الجنوب، والذين خسروها وتضرروا من نتائجها هم أيضا من الشمال ومن الجنوب، ولم يكن الجنوبيون محمد سالم باسندوة وعبد القادر باجمال وطارق الفضلي وعبد ربه منصور هادي أقل حماسا لحرب صيف 1994 من الشماليين عبد الكريم الإرياني وعبد العزيز عبد الغني وعبد المجيد الزنداني وعلي محسن الأحمر.
         إن القضية الجنوبية ستظل قضية عادلة ما دامت مفهومة في سياقها اليمني العام، أما إخراجها عن هذا السياق فينزع عنها صفة العدل ليضعها في مواجهة مع مصالح الأغلبية الساحقة من اليمنيين في الجنوب قبل الشمال، والحل العادل لهذه القضية يكمن في دولة لكل مواطنيها يساهم الجنوب في إنتاجها على قدم المساواة مع الشمال بصرف النظر عن التفاوت الكبير في عدد السكان. وفيما يلي سنحاول وضع القضية الجنوبية في سياقها الصحيح لفهمها فهما موضوعيا بعيدا عما يثيره البعض حولها من التباسات تحملها ما لا تحتمل. ولأن هناك من يسعى لوضع القضية الجنوبية في مواجهة مع الوحدة اليمنية فسوف نبدأ حديثنا عن القضية الجنوبية بالحديث عن الوحدة أولا.

في معنى الوحدة.  
         الوحدة مشترك إنساني يقوم على كثير من القواسم التي تكونت من خلال التعايشات التلقائية بين أفراد الشعب الواحد عبر تاريخهم الطويل الموغل في القدم، وهي بهذا المعنى ظاهرة وجدانية عاطفية تنشأ عفويا في تركيبة المجتمع في سياق تفاعل أفراده مع بعضهم البعض وتفاعلهم مجتمعين مع بيئتهم ومع التحديات الحقيقية أو المتوهمة التي تهدد وجودهم في هذه البيئة. وفي سياق هذا التفاعل تتولد المصالح المتبادلة ويستأنس الأفراد والجماعات بعضهم ببعض، ومع الزمن يفضي هذا الاستئناس إلى وجود مشتركات ثقافية ومعرفية وأيديولوجية ونفسية....الخ تمجد هذه التعايشات وترسخها وتعمل على استمرارها عبر الأجيال. وفي مرحلة متأخرة من هذه الصيرورة يأتي دور النخب التي تصوغ المفاهيم وتضع الاصطلاحات الاجتماعية لكثير من تلك التعايشات، وعن هذا العمل النخبوي ينتج "الشعار" الذي يحول ظاهرة الوحدة من حالة "إستئناس" إلى "راية" سياسية تجتمع تحتها كثير من الأهداف والمبادئ التي تأخذ في الغالب طابعا تعبويا.
         على المدى الموغل في القدم لا نعلم على وجه التحديد متى نضجت مشاعر الوحدة بين اليمنيين وتحولت من حالة الاستئناس إلى "راية" سياسية قادرة على التعبئة والحشد، وكل ما نعلمه أن اليمنيين، طوال تاريخهم، عرفوا الوحدة مثلما عرفوا التجزئة. لكن المراوحة بين الوحدة والتجزئة لم تحظ بالقدر الذي تستحقه من البحث والدراسة الموضوعية.أما فيما يتعلق بالماضي القريب فجميعنا يعلم أن مدينة عدن هي التي لعبت دور الحاضنة لتعايشات اليمنيين المعاصرين من مختلف أنحاء الجنوب والشمال، فبفضل هذه الحاضرة تغلب اليمنيون على عوامل العزلة وأعادوا بناء علاقاتهم وتعايشاتهم اليومية بوجدان جمعي ميز بينهم وبين أبناء الجاليات الأجنبية التي جلبها البريطانيون إلى مستعمرة عدن، ولم يستطع قانون الجنسية في المستعمرة أن يحول دون تعايشات اليمنيين واندماجهم الاجتماعي وممارسة مختلف أشكال التعبير عن تضامناتهم كجماعة وطنية لديها وشائج ومشتركات تعود جذورها إلى تفاعل الجغرافيا والتاريخ عبر القرون. لكن هذه التضامنات لم تحظ هي الأخرى بالبحوث والدراسات الاجتماعية والثقافية وكل ما يتوفر بشأنها حتى الآن هو مجرد مقالات سياسية وذكريات عن تظاهرات حاشدة شهدتها مدينة عدن مطلع ستينيات القرن الماضي احتجاجا على حرمان سلطات الاحتلال أبناء الشمال من المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي واعتبارهم أجانب.
التنظير للوحدة اليمنية بصيغتها المعاصرة:
         انطلاقا من عدن ومن تعايشات اليمنيين في هذه المدينة بدأ رواد الحركة الوطنية اليمنية الأوائل ينظرون لقضية الوحدة اليمنية المعاصرة ويضعون شعاراتها بالتزامن مع المد القومي العروبي المناهض للاستعمار وتأثير هذا المد على اليمن، وفي عملية التنظير هذه جرى استدعاء الوحدة من إرشيف الماضي الوطني البعيد بصورة مثالية بعد تنقية هذا الماضي – ذهنيا - من محطاته الصراعية وحروبه وانقساماته وتغلباته لإسناد تعايشات الحاضر الوئامي الحي في مستعمرة عدن وكأن هذه التعايشات امتداد تصاعدي طبيعي لتعايشات وئامية جرت أيضا في الماضي. وهذه طريقة مثالية في قراءة التاريخ جعلت من الوحدة أيديولوجيا تعبوية تنتقي من التاريخ ما تريد وتهمل ما لا تريد. ومن غير شك أن تحول الوحدة إلى أيديولوجيا تعبوية قد أساء إلى الوحدة نفسها وسيظل يسيء إليها ما لم تتحول إلى مشروع سياسي عقلاني ينطلق من مصلحة المواطن العادي بعيدا عن أهواء النخب. وقد رأينا كيف استثمرت قوى حرب 1994 القدرة التعبوية لأيديولوجيا الوحدة واستخدمتها لإشعال تلك الحرب وتبريرها وتمريرها، بينما الحرب – أي حرب – لا يمكن أن تكون من جنس الوحدة بين أبناء الشعب الواحد، وهذا ما أكدته النتائج التي أفضت إليها حرب 1994 حيث نقلت براميل التشطير من الجغرافيا إلى النفوس وخلقت مزاجا كارها للوحدة في الجنوب ومزاجا خائفا عليها في الشمال.
         لقد أيقظت الحركة الوطنية اليمنية الوحدة في وعي الناس كحلم تغييري بدت معه التجزئة القائمة وكأنها حالة شاذة في التاريخ اليمني صنعها المستعمر الأجنبي ولا بد إذن من إخراج هذا المستعمر وإعادة الاعتبار لهذا التاريخ من خلال الوحدة. وهذا كلام يصلح للتعبئة والحشد والتحريك لكنه لا يصلح للتوعية العقلانية بقضية الوحدة. والحقيقة أن المستعمر احتل عدن عام 1839 والجنوب قد اعتاد التجزئة وألف العيش الطويل في فسيفساء من السلطنات والإمارات والمشيخات، بينما كان الشمال يعيش حالة فوضى ناجمة عن تعدد الإمامات المتصارعة. وعام 1849 عادت الخلافة العثمانية إلى اليمن ولكن إلى شمال البلاد هذه المرة. وإذا كان الاستعمار البريطاني قد تعامل مع واقع التجزئة في الجنوب كما هو وأبرم اتفاقيات حماية مع السلطنات والمشيخات والإمارات فإن العثمانيين سعوا إلى فرض حكم مركزي على الشمال ساعد على بقائه موحدا بعد رحيلهم عنه وقيام مملكة الإمام يحي في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ومن المفارقات الملفتة للإنتباه أن المركزية التي فرضها العثمانيون على الشمال واجهت دائما مقاومات مسلحة وبخاصة في شمال الشمال بالرغم من الشراكة في المعتقد الديني، بينما مالت دويلات الجنوب في الأعم الغالب إلى الاستقرار والتكيف مع واقع الحماية والوصاية الأجنبية رغم اختلاف المعتقد. فالمماثلة في الدين لم تحبب دولة الخلافة الإسلامية عند زعامات شمال الشمال التقليدية الطامحة في الحكم، وفي المقابل لم ير سلاطين الجنوب في المغايرة الدينية مع المستعمر ما يوجب كراهيته مادام لم يهدد حكمهم التقليدي. ثم أن الشمال لم يكن يعيش فراغا دينيا حتى يملأه العثمانيون، وفي المقابل لم يأت الاستعمار البريطاني إلى الجنوب لإفراغه من الدين. لهذا السبب لم تر زعامات شمال الشمال التقليدية أي تناقض بين الدين وبين مقاومتها للحكم العثماني في اليمن، وبالمثل لم يجد سلاطين الجنوب في الدين من حرج يمنعهم من التعاطي مع واقع الاستعمار الذي لم يهدد نفوذهم الفعلي على الأرض وساكنيها.
         والخلاصة أن الرابطة الدينية لم تشفع للعثمانيين في شمال الشمال، وقد غادروا البلاد إثر هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى. أما الجنوب المتشظي إلى كيانات فقد كان بحاجة إلى رابطة وطنية صريحة قادرة على التعبئة والحشد ومن ثم تحريك المقاومة من أجل التحرير والتوحيد، ولم تكن هذه الرابطة سوى الهوية اليمنية للجنوب التي استدعيت من أرشيف التاريخ بعد تنظيفها من غبار أزمنة التشظي. ومن غير استدعاء هذه الهوية الجامعة والعابرة للهويات المحلية الفرعية ما كان بمقدور الجنوب أن يجمع بين تحرير الأرض وتوحيدها في دولة واحدة.
         وقد احتاج الجمع بين تحرير الجنوب وتوحيده إلى خوض معركة مزدوجة، فهي ضد الاستعمار من أجل التحرير، وهي في الوقت نفسه ضد السلاطين والمستوزرين من أجل تثبيت الهوية اليمنية للجنوب والتعبير عنها في دولة واحدة قامت على أنقاض 23 سلطنة ومشيخة وإمارة. ومثلما كان تحرير الجنوب هدفا وطنيا مقدسا كان توحيده أيضا هدفا وطنيا على المستوى نفسه من القداسة، ولهذا السبب وضعت الجبهة القومية الاستعمار والسلاطين والمستوزرين في خانة واحدة. ومن غير ملحمة تحرير الجنوب وتوحيده ما كان بمقدور اليمنيين أن يصلوا إلى 22 مايو 1990، وما لم ندرك هذه الحقيقة سيتعذر علينا فهم الطبيعة الكارثية لحرب 1994 وقياس حجم الضرر الذي ألحقته بالجنوب وبتاريخه الوطني وباليمن ووحدته عموما.

تداعيات حرب 1994 على الوحدة اليمنية:
          فتحت حرب 1994 – بمقدماتها ونتائجها - الأبواب على مصارعها لتسفيه التاريخ الوطني للجنوب الواقع بين اكتوبر 1963 و22 مايو 1990 وأيقظت النزعات الثأرية من هذا التاريخ ببعديه التحريري والتوحيدي وخلقت في الجنوب نزعات معادية لوحدة 30 نوفمبر 1967 تعبر عن نفسها مؤقتا من خلال العداء لوحدة  22 مايو 1990.
         ففي البعد الأول –التحريري-  أعادت حرب 1994 الاعتبار للاستعمار البريطاني الذي جعل من عدن مدينة المدائن ونقل ساكنيها من العصور الوسطى إلى العصر الحديث بينما ذهب أمراء حرب 1994 يمارسون التدمير الممنهج للقيم المدنية والحداثية التي راكمتها المدينة لعقود طويلة وتعاملوا مع متنفساتها وجبالها وشواطئها ومعاملها ومنشآتها كما يتعامل الغزاة البدائيون مع الغنائم واعتدوا حتى على أسماء مدارسها وشوارعها. وخلال 129 عاما من الاستعمار لم يسمع الجنوبيون كلمة واحدة مهينة بينما تعرضوا خلال السنوات التي أعقبت حرب 1994 لترسانة إعلامية ضخمة لم تتوقف يوما واحدا عن مخاطبتهم كمهزومين عليهم أن يستسلموا لواقع التهميش والإقصاء والتسريح الجماعي من الجيش والأمن والوظيفة العامة. ومن المفارقات المؤلمة أن المناسبات الوطنية للجنوب تحولت هي الأخرى إلى مناسبات لتسفيه تاريخه الوطني وتحولت القاعات التي غنى فيها الحزب الاشتراكي للوحدة قبل قيامها إلى مقاصل أيديولوجية لإعدامه بعد قيامها، ولم يسلم قادة الدولة والحزب في الجنوب من التشهير المنظم وكأن تاريخ الجنوب لم يبدأ إلا مع "الفاتحين" في 7 يوليو 1994.
         وفي البعد الثاني- التوحيدي- إستدعى أمراء حرب 1994 كل الأحقاد والعداوات القديمة ضد الجبهة القومية والحزب الاشتراكي الناجمة عن معركة توحيد الجنوب وأعطوا الضوء الأخضر لزعماء السلطنات والمشيخات والإمارات كي ينتقموا من ثورة 14 اكتوبر 1963 وما حققته من مكاسب مادية ومعنوية للفلاحين والفقراء والمهمشين والمرأة. وبالتواطؤ مع بعض زعامات الجنوب التقليدية القديمة تحايل أمراء حرب 1994 على أراضي الدولة في الجنوب واستولوا على مساحات مهولة وبوثائق مزورة وأصبح من المتعذر على أبناء الجنوب في بعض المناطق أن يعثروا على قطعة من الأرض لبناء مدرسة.
         من حق السلاطين أن يعودوا إلى وطنهم وأن يستأنفوا حياتهم كمواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات يكفلها وينظمها الدستور. وحق العودة يمتد ليشمل أيضا بيت حميد الدين في الشمال. وهذا كله ممكن في إطار عدالة انتقالية ومصالحة وطنية تاريخية ليس فيها شبهة الانتقاص لا من ثورة سبتمبر ولا من ثورة أكتوبر. لكن سلطة حرب 1994 تعاملت مع هذه القضية تعاملا إنتقائيا غير معلن، فالطرف الذي أطاحت به ثورة سبتمبر لايعود وليس من حق أي من أفراد بيت حميد الدين أن يوارى الثرى في وطنه إذا مات، أما أولئك الذين أطاحت بهم ثورة اكتوبر فمن حقهم ومن واجبهم أن يعودوا بل وأن ينتقموا ممن أطاح بهم. إننا هنا أمام مفارقة تكشف عن عداء دفين لثورة 14 أكتوبر، فأمراء حرب 1994 لا تربطهم بهذه الثورة أية علاقة وجدانية وعاطفية على الإطلاق والجنوب بالنسبة لهم ليس وطنا له أمجاد وله تاريخ وله شعب وذاكرة وطنية بقدر ما هو جغرافيا وغنائم وفيد وهيمنة ونفوذ.

         لقد عمل أمراء حرب 1994 على تشريد وإقصاء وإضعاف القوة التوحيدية في الجنوب ممثلة بالحزب الاشتراكي اليمني وأقاموا تحالفات مع القوى التفكيكية التي تضررت من ثورة 14 أكتوبر. وليس معني هذا أن النية كانت معقودة من أجل تفكيك الجنوب، ما نقصده أن سلطة الحرب اعتمدت الأساليب العسكرية والأمنية لإحكام قبضتها على جغرافيا الجنوب والسطو على مقدراته بينما ذهبت تستدعي جراحات الماضي لتفكيك تماسكه الاجتماعي والسياسي، وفي إطار هذا النهج دخلت في تعاقدات انتقائية مع من تريد لضمان التمثيل الشكلي للجنوب في مؤسسات الدولة المركزية والتغطية على واقع الضم والإلحاق القسري، لكن هذا الواقع قوبل بالرفض الذي بدأ همسا ليتحول إلى حراك سياسي اجتماعي منذ العام 2007.

الجنوب العربي كرد فعل انفعالي:
         والملاحظ أن الحراك الجنوبي لم يبدأ إلا بعد نحو ثلاثة عشر عاما من حرب 1994، وخلال هذه السنوات عاشت اليمن أجواء التمجيد الرسمي اليومي للحرب ونتائجها، وكان أهل الجنوب يرون أغلب أهل الشمال يجارون هذا التمجيد ويرفعون نتائج الحرب إلى مستوى " فتح مكة " الأمر الذي خلق حالة إحباط عند أهل الجنوب افتقروا معه إلى الشعور بالتضامن والتعاطف من قبل أهلهم في الشمال، وضاعف من هذا الإحباط أن معظم الكتابات والتنظيرات التي تصدت لتفسير أسباب الحرب ونتائجها وانعكاساتها على حياة السكان في الجنوب كانت تنافق المنتصر وتبرر سياساته وتصرفاته في المحافظات الجنوبية وفي أحسن الأحوال تسميها مجرد " أخطاء " – مع أنها نهج مقصود ومخطط له - وتستكثر على الجنوبيين التعبير عن أوجاعهم بحجة أن المعاناة واحدة والظلم الواقع على المحافظات الجنوبية هو نفسه الواقع على المحافظات الشمالية، وكأن الوحدة لا تستقيم إلا إذا تماثل السكان في الشمال والجنوب مثلما يتماثل الموتى في المقابر!!! ونسي هؤلاء أو تناسوا أن الجنوب جزء من اليمن وليس جزءا من الشمال وأنه كان دولة محمية بقوة القانون الدولي وأن مقارنته بتهامة أو أي من محافظات الشمال غير جائز من الناحيتين المنطقية والمنهجية.

         إن غياب تعاطف أهل الشمال مع أهل الجنوب أو ضعفه في أحسن الأحوال وتواطؤ معظم نخب الشمال مع المنتصر خلق مع الوقت حالة انسداد عند بعض تجنحات الحراك الجنوبي تجلى من خلال التمحور حول الذات الجنوبية والحديث عن جنوب عربي وعن فك الارتباط، وهذا رد فعل طبيعي لأن العصبية التي تحتكر المشترك الوطني في المركز تنتج في المحليات عصبيات مضادة متمردة على هذا المشترك.

شعار "الوحدة فريضة إسلامية":
         وفي مواجهة شعار "فك الارتباط" استنجدت بعض قوى حرب 1994 بشعار "الوحدة فريضة إسلامية" ما يعني أن الرابطة الوطنية التي اتكأ عليها الجنوب في معركة التحرير والتوحيد قد أصيبت في مقتل بسبب حرب 1994 ونتائجها، وبدلا من العمل على ترميم هذه الرابطة جرى قمعها بشعارات اختلطت فيها السياسة بالدين وغير قادرة على الصمود أمام أي نقد. فاليمنيون لم يعلنوا عن وحدة 22 مايو 1990 لأنهم مسلمون وإنما لأنهم يمنيون وجماعة وطنية واحدة بغض النظر عن معتقدها الديني، والتفكير بإعادة بناء الوحدة لا يستقيم منطقيا ومنهجيا ما لم ينطلق من هذه الحقيقة.

" الوحدة فريضة إسلامية" شعار إقصائي:
         كنا قد أسلفنا بأن الوحدة في مبتداها تعايشات عفوية تنشأ تحت السطح، والنخب هي التي تبلورها وتؤطرها نظريا ومعرفيا وتلفت نظر المجتمع إليها من خلال "الشعار" الذي يوقظها في وعي الناس وينقلها من مستوى التجسيد إلى مستوى التجريد ومن الواقع العياني الملموس إلى التنظير المجرد. ومن هنا تبدأ المسميات والمفاهيم والاصطلاحات التي يجري صكها لتعزيز حالة الاستئناس وتعميق المشتركات وإثرائها.غير أن المفاهيم والمصطلحات والشعارات التي من قبيل "الوحدة" لا تصك داخل مختبرات علمية وإنما في فضاءات مجتمعية غالبا ما تتباين فيها مصالح الجماعات والطبقات والفئات بغض النظر عن إدراك منتسبيها لهذا الصراع ووعيهم بهذا التباين، ولهذا السبب لا تكون المصطلحات والمفاهيم والشعارات دائما معبرة بدقة وإخلاص عن أصولها وجذورها المادية التي انبثقت منها، فأحيانا تتدخل الأهواء والمصالح والرغبات لتحميل المفاهيم المجردة بمعان مضافة تنحرف بالوحدة عن أصلها بمعنى "الاستئناس" المتولد عن معايشات تلقائية عبر التاريخ إلى معان ليست لها علاقة بهذا الأصل. وشعار "الوحدة فريضة دينية" واحد من الأمثلة التي يمكن التدليل بها على هذا الإنحراف، فهذا الشعار لم يكن له وجود في اليمن قبل حرب 1994، وإنما جرى صكه في مناخ صراعي لتسويغ الهروب من المعالجة السياسية السلمية لأزمة الوحدة إلى الحرب. وكما هو معروف أجهزت الحرب على شراكة الجنوب في اتفاقية الوحدة وفرضت عليه واقعا جديدا يسميه المنتصر "وحدة معمدة بالدم" بينما تقول قوى الحراك الجنوبي جهارا نهارا بأنه إحتلال. ونحن لا نطلب من أحد أن يتمترس وراء هذا التوصيف أو ذاك لكن عليه أن يلاحظ أن الواقع الذي أنتجته حرب 1994 في الجنوب لا علاقة له بالوحدة بمعنى "الاستئناس" الناجم عن التعايشات الإنسانية التلقائية لليمنيين، كما أنه لا يعبر عن الوحدة كشراكة وطنية حقيقية بين الشمال والجنوب.

         ومن نافلة القول أن تعايشات اليمنيين تعمدت فعلا بالدم ولكن ليس في حرب يمنية- يمنية لا يمكن تبريرها وطنيا وإنسانيا وأخلاقيا وإنما في حرب التحرير ضد الاستعمار البريطاني، وهي حرب أفضت لا إلى الكراهية والمفاصلة في النفوس وإنما إلى الحب الذي رفع التعايشات التلقائية من أس الاستئناس إلى أس الإنصهار الوطني الذي أنتج دولة مستقلة في الجنوب لا تفرق بين شمالي وجنوبي.

          لقد قام شعار "الوحدة فريضة دينية" بعملية مناقلة من بند المقدس الديني ممثلا في الإيمان بالله والأخوة في الدين إلى بند المقدس الوطني ممثلا في الإيمان بالوحدة والأخوة في الوطن ليشحن هذا الأخير بمعان دينية ليست من أصل المفهوم، وعن طريق هذه المناقلة يقوم الحامل السياسي لهذا الشعار بعملية إزاحة وإحلال، فهو أولا يزيح الرابطة الوطنية ليحل محلها الرابطة الدينية، وهو ثانيا يزيح مفهوم المواطن ليحل محله مفهوم المؤمن، وهو ثالثا يزيح الحامل السياسي الوطني لقضية الوحدة ليحل نفسه محله وكأنه هو حامل هذه القضية، مع أنها مطروحة على جدول أعمال الحركة الوطنية لعقود سابقة قبل ظهور الإسلام السياسي.

         وإذا كانت "الوحدة فريضة دينية" كما يقال اليوم فلماذا تشدد البعض في تكفير من أخلص لهذه الفريضة وظل يتعبد بها زمن التشطير؟..لماذا قيل عن دستور دولة الوحدة بأنه "يساوي بين من كان مؤمنا وبين من كان كافرا"؟..كيف نفسر استعداء الرأي العام ضد دستور 1990 الذي من غير التوافق عليه ما كان بمقدور اليمنيين أن يؤدوا "فريضة" الوحدة؟..تؤكد هذه التساؤلات أننا أمام شعار اختلطت فيه السياسة بالدين، أو قل هو شعار سياسي بقناع ديني، وهذا الشعار لا يصنع وحدة وطنية وإنما يتطفل على وحدة وطنية مصنوعة، إنه لا يحقق الوحدة الوطنية وإنما يحاول استثمارها لصالحه بعد أن تحققت، إنه شعار متأخر عينه على دولة الوحدة لا على الوحدة، شعار يريد أن يخطف دولة الوحدة باسم الوحدة، وهو بهذا المعنى شعار إقصائي متستر بالدين.

الرابطة الوطنية والرابطة الدينية:
         يقوم شعار "الوحدة فريضة إسلامية" على إقصاء الرابطة الوطنية لصالح الرابطة الدينية التي تأخذ بعدا مذهبيا في الغالب، ومن ثم إقصاء مفهوم الوطن والمواطنة لصالح أيديولوجيا دينية تقدم على أنها هي الدين. وهذا الإقصاء يعبر عن مواجهة مفتعلة بين الرابطة الوطنية والرابطة الدينية أساسها عدم القبول بالتعدد الذي تفترضه وتتيحه وتحتمله الرابطة الوطنية، بينما لا تفترضه ولا تتيحه ولا تحتمله الرابطة الدينية.

         تقوم الرابطة الوطنية على الأخوة في الوطن (المواطنة) بينما تقوم الرابطة الدينية على الأخوة في المعتقد الديني. والرابطة الوطنية لا تنتقص من الرابطة الدينية ولا تطمح إلى الحلول محلها بل تتعزز بها إذا كان المجتمع يدين بعقيدة واحدة وبمذهب واحد.

وبالمقابل تتمكن الروابط الدينية والمذهبية من التعايش بسلام في ظل رابطة وطنية واحدة لشعب متعدد الأديان أو المذاهب.

         وبينما تقوم الرابطة الدينية على فرضية أن الأصل في المجتمع هو الإجماع بين "المؤمنين"، فإن الرابطة الوطنية تقوم على فرضية أن الأصل في المجتمع هو الاختلاف بين "المواطنين" حتى وإن كان المجتمع يدين بعقيدة واحدة. ومن البديهي والحال كذلك أن تنصرف الرابطة الدينية إلى تعزيز إجماع المؤمنين، بينما تنصرف الرابطة الوطنية إلى تنظيم اختلاف المواطنين.

         ولتنظيم الاختلاف بين المواطنين تحتاج الرابطة الوطنية إلى الديمقراطية، بينما تحتاج الرابطة الدينية إلى الوعظ والإرشاد لتعزيز الإجماع بين المؤمنين.

فالرابطة الوطنية تنتمي إلى المجال السياسي، بينما تنتمي الرابطة الدينية إلى المجال الأخلاقي. وهذان المجالان لا يتداخلان ولا يتضاربان إلا عندما تغيب الديمقراطية وتعجز الرابطة الوطنية عن تنظيم الاختلاف بين المواطنين. فبسبب عجز الرابطة الوطنية تنفذ الرابطة الدينية وتتمدد من مجالها الأخلاقي إلى المجال السياسي فتتضاعف أزمة الرابطة الوطنية، ويتجلى ذلك من خلال بروز خطاب سياسي وطني مرتبك، فهو إما أن ينافق الرابطة الدينية ويتحول إلى خطاب وعظي، وإما أن يصادمها ويخلق لنفسه تعقيدات هو في غنى عنها، وفي الحالتين لا يكون خطابا ناضجا ومستقلا بذاته ولا يكون مؤهلا للتعبير الدقيق والسليم عن الرابطة الوطنية، أي أنه يفشل في أن يكون خطابا جامعا.
         والفشل يكون أيضا من نصيب الخطاب الديني المسيس أو قل الخطاب السياسي المقنع بالدين، فهو أيضا يعجز عن تحويل الاختلاف في المجتمع إلى إجماع، يفشل في تحويل المواطنين إلى كتيبة متجانسة من المؤمنين الذين يصدقون كل ما يقال لهم ويتصرفون كأتباع ومريدين، وفي الغالب لا يستطيع منتج هذا الخطاب أن يجد تفسيرا لفشله في تحقيق الإجماع المثالي الذي يريد، لذلك يستسهل تكفير الآخر المغاير له، وعندما يقع هذا تكون الرابطة الوطنية في أزمة حقيقية، أزمة تظافر في إنتاجها الخطاب السياسي الوطني المنافق للدين أو المصادم له والخطاب الديني المسيس.

         لهذا السبب نرى المشهد السياسي اليمني معقدا، ومن الصعب أن نفك تعقيداته ما لم نعد بناء الرابطة الوطنية المؤهلة لتنظيم الاختلاف بواسطة الديمقراطية بعد تخليصها من كل زيف طالها. ومن الصعب أن نفك تعقيدات هذا المشهد إذا تعلقنا بأوهام الإجماع الذي لن يأتي. فا"الروافض والنواصب" لم ولن توحدهم المواعظ والخطب وإنما الرابطة الوطنية التي تحولهم إلى مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. والأمر نفسه يسري على "الوحدويين والإنفصاليين". فالإنفصالي لم يظهر إلا عندما دمرت الرابطة الوطنية بفعل حرب 1994 ونتائجها، فلا يوجد إنفصاليون وإنما توجد سياسات تصنع إنفصاليين.

"الوحدة أو الموت" شعار المتغلب:      
         شعار "الوحدة أو الموت" - مثله مثل شعار "الوحدة فريضة إسلامية" – يولد هو الآخر وعيا زائفا بقضية الوحدة بما هي "استئناس" يكرس بمشتركات ثقافية ونفسية. فوحدة الحرب وحدة متولدة عن القوة والغلبة، وهي بهذا المعنى وحدة المتغلب وليست وحدة الشعب والوطن. والمتغلب عادة لا يأتي إلا في مرحلة متأخرة جدا بعد أن تكون التعايشات التلقائية قد وحدت الأفراد والجماعات نفسيا وثقافيا على نحو يسمح بمخاطبتهم سياسيا ككتلة شعبية واحدة. وفي هذه اللحظة المتأخرة يعمد المتغلب إلى قيادة الكتلة الشعبية طوعا أو كرها إلى حيث يريد ومن أجل ما يريد في لحظة عابرة مرتدة عن المسار التصاعدي للتاريخ  تقدم على أنها هي التاريخ بعد أن وضع في مساره الصحيح. ويُقدَّم رموز هذا الارتداد على أنهم صناع التاريخ. وحرب 1994 هي لحظة مرتدة عن المسار التصاعدي لتاريخ الوحدة اليمنية وصناع هذه اللحظة هم قوى الإرتداد.

         إن الوحدة بمعنى الاستئناس هي وسيلة النهوض المادي والروحي لطرفيها.أما وحدة الحرب فليست سوى غاية المتغلب الذي يريد أن يبني لنفسه أمجادا على حساب هذا النهوض.وشعار " الوحدة أو الموت " تعبير متوحش عن هذا المعنى. وتعميمه في كتب المطالعة المدرسية ينم عن انحطاط النخبة التي صكته وإصرارها على تصدير انحطاطها إلى المجتمع وتحويله إلى عقيدة مجتمعية.
         إن الوحدة وسيلة للنهوض بطرفيها وليست غاية مطلوبة لذاتها. والوحدة مرتبطة بمصلحة طرفيها وجودا وعدما وهما هنا الشعب اليمني في الشمال والجنوب. أما الوحدة التي يجري تأسيسها على مقولة "إذا لم نتوحد سنظل نتحارب" فهي وحدة لا تنهي الحروب وإنما تغير شروطها فقط. لذا يلاحظ أن الحرب الساخنة المتقطعة بين دولتي الشطرين قبل الوحدة تحولت إلى حرب باردة ودائمة في ظل الوحدة. وإذا كان للحرب بين دولتي الجنوب والشمال محركاتها ومثيراتها في زمن الحرب الباردة فما هي محركات ومثيرات القمع المادي والمعنوي الذي مارسته السلطة المركزية في صنعاء ضد الحراك الاجتماعي الاحتجاجي في الجنوب منذ بداياته الأولى؟ ألا يدل هذا على أن حرب 1994 حولت الوحدة إلى ملصق إعلاني للتغطية على واقع ليس من جنس الوحدة؟ ألا يدل هذا على أننا إزاء مشكلة يجب البحث عن جذورها في الشمال لا في الجنوب؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

وكالة أرصفة للأنباءجميع الحقوق محفوظة 2016